كتاب > روايات ومقالات
مراجعة رواية
الحلمُ الأميركيُّ هو الفكرةُ الأولى التي ستَلفِتُ نظرَ القارئ.
هو الحُلمُ الذي يرتكزُ إلى تحقيقِ الإنجازاتِ وإثباتِ الذاتِ ضمنَ مجتمعٍ استهلاكيٍّ، وأَن تجعلَ من نفسِكَ مشهوراً وغنياً إلى حدِّ التُخمةِ، ولكن عندَ غاتسبي؛ فإنَّ الحلمَ يتحولُ إلى وسيلةٍ لكي يصلَ إلى تلكَ المرأةِ المدعوّةِ ديزي!
غاتسبي شخصيةٌ غامضةٌ جداً، وهي مرعبةٌ ورومانسيةٌ في الوقتِ ذاتهِ، وهو ممثلٌ بامتيازٍ، ولديهِ القدرةُ على إقناعِ الناسِ بأدائِه مستخدماً بعضَ العناصرِ الماديةِ لخداعِهم بشخصيتهِ المصطنعة، مثلَ وجودِ مكتبةٍ ضخمةٍ في منزلهِ وصورٍ لهُ في جامعةِ أوكسفورد التي لم يرتَدْها سوى بضعةِ أشهرٍ.
إنَّه يعيشُ ملكاً على عالمٍ غيرِ واقعيٍّ، ويحلمُ بحياةٍ ليست في متناولِ يديهِ.
وهو أحدُ الأمثلةِ على هؤلاءِ الأشخاصِ الأغنياءِ الذينَ لا يُنظَرُ إليهم على أنَّهم نخبةٌ، ولهذا السببِ؛ فإنَّه يسعى للحصولِ على ديزي مرةً أُخرى، لكي تتسنَّى له فرصةَُ تسلّقِ السلّمِ الاجتماعيِّ والوصولِ إلى قمتهِ التي تَنتمي إليها ديزي.
ستعالجُ الروايةُ بوضوحٍ موضوعَ الفوارقِ الاجتماعيّةِ والطبقيّةِ في الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ بعدَ الحربِ العالميةِ الأولى، إذ ستركِّزُ على الفرقِ بين منطقتَين؛ الأولى هي "إيست إيغ" المخصَّصة لأولئك الأغنياءِ أباً عن جَدٍّ، وذوي الأصولِ النبيلةِ التي تنتمي إليها ديزي وزوجُها توم بيوكانن وقريبُها نيك كاراوي بالإضافةِ إلى جوردان بيكر، والمنطقة الثانية هي "ويست إيغ" وهي المنطقةُ المخصصّةُ لمُحدَثي النِعمةِ أمثالِ غاتسبي.
وكُتِبت الروايةُ بعدَ الحربِ العالميةِ الأولى، لذا فإنّها تَعكسُ العَصرَ الحديثَ بكلِّ تفاصيلهِ وكلِّ اختراعاتهِ وتقنياتهِ، والتي قُدّمَت إلى المجتمعِ الأميركيِّ آنذاك، ولكن في بداية ِالأمرِ لم يستطعِ المجتمعُ الأميركيُّ تقبلَ تلكَ الاختراعاتِ بسهولةٍ وسلاسةٍ، فقد كانت أشياءَ مربكةً في الشكلِ والصوتِ الصادرِ عنها، ولدينا بدءُ صناعةِ السياراتِ في أميركا وفتحُ الطرقاتِ وبناءُ محطاتِ الوقودِ والمحالِ التجاريةِ أيضاً، ممّا أدَّى إلى استغلالِ المزيدِ والمزيدِ من الأراضي؛ الأمرُ الذي ساهمَ بتقسيمِ المجتمعِ إلى طبقةٍ عاملةٍ وطبقةٍ متوسطةٍ وطبقةِ النخبةِ، وعَرفت أمريكا في تلكَ الفترةِ موسيقا الجازِ التي كانت مختلفةً تماماً عن الموسيقا الكلاسيكيةِ، وقُدِّمَ إلى المجتمع ما عُرفَ فيما بعدُ "بمذهب اللَّذةِ"؛ والذي يعني أنَّه ليسَ على الإنسانِ سوى أن يأكلَ ويشربَ ويستمتعَ دونَ أن يفكِّرَ أو يأخذَ على عاتقهِ ما سيحدثُ في اليومِ التالي. وفي هذه الفترةِ بدأ المجتمعُ الأميركيُّ يتساءلُ إذا ما كانت عاداتُهُ وتقاليدُهُ التي كان يتّبعُها صحيحةً وأخلاقيةً! فلماذا انتهى بهم المطافُ إلى حربٍ عالميةٍ حوَّلت حياتَهم إلى جحيمٍ؟ ممَّا يعني أنَّ المجتمعَ أصبحَ في حالةِ ثورةٍ على نفسهِ وعاداتهِ وتقاليدهِ.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّه أثناءَ القراءةِ سيعبُر القارئُ إلى مَنطقةٍ اسمها وادي الرَّماد، وما اختيارُ كلمةِ الرمادِ هنا من قبلِ ف. سكوت فيتزجيرالد إلّا للإشارةِ إلى أنَّ كلَ شيءٍ بعدَ الحربِ العالميةِ الأولى كانَ يحترقُ ويتحولُ إلى رمادٍ، ويضفي استخدامُ كلمةِ رمادٍ شيئاً منَ الشبحيةِ لهذه المنطقةِ التي تسكُنها الطبقةُ العاملةُ أيضاً، فهؤلاءِ العمالُ الذينَ يعيشونَ في هذهِ المنطقةِ هم أشخاصٌ غير مرئيينَ ومثلُ الأشباحِ تماماً، وتستخدمهم الطبقةُ الغنيةُ باستمرارٍ لقضاءِ حاجاتِها ولكنّها لا تراهم أبداً، وإلى هذه المنطقةِ التعيسةِ ينتمي ويلسون و زوجتُه ميرتل اللذانِ سيدفعانَ في نهايةِ الأمرِ الثمنَ كلَّه إلى جانبِ غاتسبي.
وبالنسبةِ إلى الراوي نيك كاراوي فإنّه سيحاولُ من السطرِ الأولِ للروايةِ أن يُظهِرَ نفسهُ بمظهرِ الراوي الذي يُمكننا الوثوقُ به، وبأنّه لا يحاولُ أن يتطفّلَ على أحدٍ، ولكنَّ الناسَ هم الذينَ يأتونَ إليهِ بكلِ مشكلِاتهم وقصصِهم، وسيحاولُ نيك منذُ البدايةِ إظهارَ نفسهِ كشخصيةٍ مختلفةٍ عن غاتسبي، وأنّهُ شخصٌ مثاليٌّ لا يريدُ شيئاً سوى الحقيقَةَ، ولا يحبُّ أن يُطلِقَ الأحكامَ على أيِّ أحدٍ، ولكنّنا سنلاحظُ بأنَّه رجلُ التناقضاتِ! نيك سيعطينا الروايةَ التي يريدُها هو، إذ يقتطعُ التفاصيلَ التي يريدُ، ويضيفُ الأجزاءَ التي يريد، وهو الشخصُ الذي اكتفى بدورِ المراقبِ ولم يتخذ موقفاً واحداً من كلِّ ما حدث، وهو سارقُ قصةِ غاتسبي ومعاناته، والمستفيدُ الوحيدُ من كلِ ما حدثَ، وقد أراد نيك دائماً أن يكونَ كاتباً، وطالما قُدِّمَ من قِبل أصدقائهِ في الروايةِ على أنّه كذلك، وطالما أنكرَ هذه الصفةَ، وفي النهايةِ أظهرَ قَلمَهُ واستغلَّ ما حدثَ مع غاتسبي وحوَّلَ قصّتهُ إلى روايةٍ، ولا أظنُّه فعل ذلك للأجل تخليدِ غاتسبي ولا لإظهارِ الحقيقةِ كما يدّعي؛ لأنّه على الرُغم ِمن كلِّ ما حدَّثهُ به غاتسبي عن حياتهِ السابقةِ فهي ليست الحقيقةُ كاملةً، ولا بَّد من انَّ غاتسبي اقتطعَ أجزاءً من قصتِه، واقتطع نيك أجزاءً أُخرى منها أيضاً؛ أي لابدَّ أنَّه قدّم لنا جزءاً من المجزَّأ.
وفي النهايةِ؛ ربحَ كلٌّ من ديزي وتوم ونيك كونَهم في أُصولهم من طبقةٍ غنيةٍ ومرموقةٍ، أمّا ميرتل وَويلسون وغاتسبي فقد خسروا كلَّ شيءٍ كونَهم في أُصولِهم من طبقةٍ متدنيةٍ، وكأنَّ هذه الفوارقَ لن تنتهي أبداً!
معلومات الكتاب:
اسم الرواية: غاتسبي العظيم.
المؤلف: ف. سكوت فيتزجيرالد.
ترجمة: أسامة منزلجي.
تصميم الغلاف: ماجد الماجدي.
دار النشر: دار المدى.
الطبعة الأولى: 2014.