الرياضيات > الرياضيات
التّناظرُ: المفهومُ وعمقُه الرّياضيُّ
غالباً ما يُختزَل التّناظر في الأذهان بتناظُرِ الأشكال الهندسيّة فحسب، لكنّ ذلك انتقاصٌ شديدٌ من شأنه، إذ لهذا المفهوم بعدٌ رياضيٌّ عميقٌ إلى درجةِ أنّ بالإمكان توظيفَه في مناحي الحياة والعلوم المختلفة، فلنتعرّف معاً في هذا المقال على هذا المفهوم ولنسبر أعماق بُعده الرّياضيّ هذا.
ما التّناظر؟
يعدُّ شيءٌ ما متناظراً إن وُجِد أمرٌ يمكن فعله له دون أن يغيّر مظهره أو شكله. فالمربّعُ مثلاً أحدُ أبسطِ طرائق تخيّل التّناظر، إذ عند تدويره 90، أو 180، أو 270 درجةٍ يبقى على حاله، وكذلك يمكن عكسه بالنّسبة إلى كلٍّ من المحاور الأربعة دون أن يتغيّر شكلُه، وبذلك نقول إنّ للمربّع تناظراً ثمانيّاً، بمعنى أنّ شكله يبقى على حالِه تحتَ تأثير ثمانيةِ تحويلاتٍ مختلفةٍ.
ولنأخذِ المعادلةَ x + y = 2 كمثالٍ أشدَّ تجريداً، قد لا يكون التّناظر بادياً فيها كما هو الحال في المربَّع، فالتّحويل هنا ليس تدويرَ عناصرَ هندسيّةٍ أو عكسَها، بل هو تبديل المتغيّرين x وy، ما سينتِج المعادلةَ y + x = 2 الّتي ليست إلّا المعادلةَ نفسَها، إذ إنّ التّرتيب الّذي تُجمع به الأعداد غيرُ ذي أهمّيّةٍ، ذلك بأنّ الجمعَ عمليّةٌ تبديليّةٌ. وهكذا يمكن القولُ إنّ هذه المعادلةَ متناظرةٌ لعدم تغيُّرها بعد تطبيق التّحويل المتمثِّل بتبديل x وy عليها، وبتعبيرٍ أدقَّ، هذه المعادلةُ متناظرةٌ بالنّسبة إلى تبديل x وy.
لكنّ السّؤالَ الّذي يطرح نفسه هنا: ما الفائدة من ذلك كلّه؟
يبسّط المثالُ السّابق التّناظرَ كمفهومٍ، لكن عدا ذلك لا فائدةََ له تُذكر، فهذه المعادلة بسيطةٌ وذات حلولٍ واضحةٍ إلى حدٍّ ما، ولكنّ مسائلَ الرّياضيّاتِ عموماً أعقدُ من ذلك، وحلولُ كثيرٍ منها لا يمكن التّوصّل إليها ارتجالاً كما هو الحال في المثال السّابق.
اكتُشِفت أهمّيّة التّناظر الحقيقيّة من قِبَل الرّياضيّ الفرنسيّ الشّابّ إيفاريست ڠالوا Evariste Galois الّذي لم يكن ثوريّاً بتفكيره الرّياضيّ فحسبُ بل والسّياسيِّ أيضاً. شارك هذا الشّابّ في الثّورة الفرنسيّة ضدّ الأرستقراطيّين، وقُتل في مبارزةٍ وله من العُمُرِ عشرون عاماً.
وبالرّغم من أنّ أعمالَه الكاملةَ تَسَعُها 60 صفحةً فحسبُ، تُعدّ أعمالُه هذه ذاتَ أهمّيّةٍ جمّةٍ؛ إذ هو مؤسّس نظريّةِ الزُّمَرِ Group Theory الّتي تُعدُّ نظريّةً رياضيّةً حاسمةً في فهْمِ التّناظر؛ فبدلاً من دراسة كلٍّ من تناظراتِ شيءٍ ما على حدةٍ، تَدرُس هذه النّظريّة تناظراتِه كلَّها دفعةً واحدةً.
فمثلاً، يرى المختصّون في نظريّة الزّمر أنّ تناظراتِ المربّع الثّمانيةَ ليست منفصلةً، بل جميعُها في زمرةٍ واحدةٍ تمثِّل جوهرَ مربّعيّته بدلاً من تمثيل جانبٍ واحدٍ منها، ما يعني أنّها تلخّص بِنيةَ المربّعِ الأساسيّةَ. ينبع ذلك من طبيعة التّناظر التّحديديّة، إذ إنّ كونَ الشّيء متناظراً على نحوٍ محدَّدٍ يحدّد كيف ينبغي أنْ يبدوَ رياضيّاً.
كمثالٍ ملموسٍ لذلك، إن طلبْنا من مجموعةٍ من الأشخاص أن يرسُموا شكلاً ما على ورقةٍ، فسنلاحِظ أنّ منهم من سيرسُم مربّعاتٍ ومنهم من سيرسُم مثلّثاتٍ بل وقد يرسُم بعضُهم أشكالاً عشوائيّةً، إذْ أيّاً كان الشّكل المرسوم فإنّه سيوافق شروطَ طلبِنا المتّسِمِ بالعموميّة. لكنْ إن أخبرناهم أنّ مظهرالأشكال المرسومةَ يجب ألّا يتغيّر مهما دوّرنا الأوراق، فما الأشكال الّتي يمكنهم رسمُها متقيّدينَ بهذا الشّرط؟ لا خيارَ لديهم إلّا رسمُ شكلِ الدّائرةِ، فإن رُسِم على الورقة أيُّ شكلٍ آخرَ سنجد حتماً زاويةً إن دوّرنا بها الورقةَ تغيّرَ مظهرُ الشّكل، وهكذا بفرْضِ شرطِ تناظرٍ واحدٍ نكون قد أغلقنا الباب أمام عددٍ غيرِ منتهٍ من الأشكالِ الممكِنِ رسمُها وتركناه مفتوحاً أمام شكلٍ واحدٍ فقط.
صحيحٌ أنّ شرطَ التّناظرِ الدّورانيِّ التّامِّ الّذي حدّدناه صارمٌ جدّاً، ولكنّه هو ما يمثّل جوهرَ دائريّة الدّائرة كما أنّ زمرةَ التّناظراتِ الثّّمانِيَةِ هي ما يمثِّل جوهرَ مربّعيّة المربَّع، فلقد توصّلنا - بالتّالي - إلى تعريفٍ موجَزٍ وأنيقٍ للدّائرة، ولكنّ أهمَّ ما يتّصف به هذا التّعريفُ أنّه صحيحٌ.
وهنا نرى أنّ جمالَ التّناظرِ الحقيقيَّ يكمن في مفهوم التّقييدِ؛ فبتقييد طريقةِ عملِ نظامٍ فيزيائيٍّ، نستطيع إجبارَه على خلق أنماطٍ يمكنُ تمييزُها، كالدّائرة في المثال السّابق. ويمكن تطبيق هذه العمليّة في كِلَا الاتّجاهين: فإمّا أنْ تُفرَضَ شروطُ تناظرٍ لتقييدِ الخَرْجِ أيِ النّتيجةِ، أو أنْ تُستخرَجَ أنماطٌ ثمّ يُستنبَطَ التّناظرُ الّذي تنبعُ منه.
قد تسألون: في أيّ مجالات العلم باستثناء الرّياضيّات يمكن توظيف هذا المفهوم الرّياضيّ؟ وهنا نخبركم أنّ كثيراً من النّظريّات العلميّة الحديثة تمثّل توظيفاتٍ هامّةً لهذا المفهوم، فمنها نظريّتا النّسبيّة لآلبرت آينشتاين، ومنها أيضاً النّموذجُ المعياريُّ الّذي يصف بِنية الجسيمات في العالَم دونَ الذّرّيِّ. سنناقش علاقة التّناظر بكلّ من هذين الموضوعين والمزيدَ في مقالٍ لاحقٍ فتابعونا.
المصدر: