الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة
فلسفة الانتحار
في الفلسفةِ الأخلاقيةِ وغيرِها من الفروعِ الفلسفية؛ أجابَ الفلاسفةُ على الأسئلةِ التي خلقها موضوعُ الانتحار، وقد ناقشَ أفلاطون ذلكَ قائلاً بأنَّ الانتحارَ ليس خطأً عندما تحكمُ الدولةُ على إنسانٍ بالموت، أو كان الإنسانُ مضطراً بسببِ سوء الحظ، أو عندما يعاني من عارٍ يائسٍ لا رجعةَ فيه، ولكنّه يرى أنّ الانتحارَ يجب أن يُجرَّمَ إذا كان ناجماً عن الكسَل والجُبن.
وظهرتْ حُجَجٌ* عارضتِ الانتحار بوصفه عملاً غيرَ أخلاقي؛ ومن الحُججِ الشائعة أنّ أسبابَ الانتحار مثلَ الاكتئابِ أو الألمِ العاطفي أو المشقَّةِ الاقتصاديةِ ما هي إلّا أسبابٌ عابرةٌ ويُمكِنُ تحسينُها بالعلاجِ أو بإجراءِ تغييراتٍ على بعضِ جوانبِ حياةِ المرء.
وهناك مقولةٌ تلخِّصُ وجهةَ النظر هذه: "الانتحارُ هو حلٌّ دائمٌ لمشكلةٍ مؤقَّتة".
في حينِ ذهبَ تيارٌ آخرُ إلى أنَّ الألمَ العاطفي قد يبدو عابراً لمعظم الناس في حالاتٍ عدّة، ولكن في حالاتٍ أُخرى؛ يبدو حلُّ مشكلاتِ الألم العاطفي صعباً أو مستحيلاً سواءٌ أكان ذلك بواسطةِ النصيحةِ أم كان بتغييرِ نمطِ حياة المتألِّم، وذاكَ استناداً إلى شدّةِ المعاناةِ أو قدرةِ الشخص على التعاملِ مع آلامه؛ مثلَ أنْ يكون مصاباً بمرَضٍ عُضالٍ أو اضطرابٍ عقليٍّ أو نفسيٍّ شديدَين لا يتوقّفانِ عن العبثِ بصاحبهما.
وأمَّا في الفلسفةِ العبثيةِ؛ يرى الفيلسوف الفرنسي الجزائري ألبير كامو أنَّ هناك مشكلةً فلسفيةً خطيرةً وهي الانتحارُ، وأنّ التقريرَ إذا ما كانتِ الحياةُ تستحقُّ أن تُعاشَ أم لا هوَ السؤالُ الأساسيُّ في الفلسفةِ الذي تنتجُ عنه جميعُ الأسئلةِ الأخرى.
وقد يعترضُ البعضُ قائلينَ أنَّ الانتحارَ "فِعلٌ"؛ فهوَ ليس سؤالاً أو مشكلةً؛ معتقدينَ أنّ السؤالَ الفلسفيَّ السليمَ هو "ما هي الظروف التي تبرِّرُ الانتحارَ؟" أو "ماذا يعني السؤالُ عن جدارةِ الحياةِ بأن تعاش؟" كما فعلَ وليم جيمس في "إرادة الاعتقاد".
وفي نظر كامو في كتابهِ "أسطورة سيزيف"؛ فإنَّ السؤالَ الفلسفيَّ الأساسيَّ هو "هل يجبُ أن أقتلَ نفسي؟"، ويبدو له أنَّ "الفعل" هو الخلاصة الاوّلية للفلسفة وليس "الفهم"، وأنَّ هدف العبثية هو تحديد إذا ما كان الانتحارُ ضرورياً في حياةٍ لا إلهَ فيها.
والانتحار وفق كامو هو رفضُ الحريّة، ولا يكون المخرجُ بالهروبِ من عبثيةِ الواقعِ إلى الأوهام أو الدين أو الموت، بل باعتناقِ الحياةِ الخاليةِ من المعنى، وأنّها عبثية بطرائقَ متنوعة، فمن العبثِ التطلعُ باستمرارٍ لإيجادِ معنىً في الحياة في حين لا يوجدُ شيءٌ، ومن العبث أن نأملَ في شكلٍ ما من أشكال الوجود بعد الموت أيضاً، وممَّا لا فائدةَ منه هو أن نحاولَ فهم العالَمِ وتفسيره، لأنَّه يرى المحاولةَ في اكتسابِ المعرفةِ العقلانيةِ عديمةُ الجدوى.
ولا يهتمُّ كامو في مجادلةِ عبثيةِ الحياة أو محاولةِ تفسيرها، بل يختارُ إظهارَ الموقف من الحياة الذي من شأنه ردعُ الانتحار، وبحسبِ وجهةِ نظره؛ فإنّ الناسَ ينتحرون بسببِ حُكمِهم على الحياة بأنَّها لا تستحقُّ أن تُعاش، ويقول في كتابه "المتمرد": "العبثُ هو تجربةٌ يجبُ أن نعيشَها، وهو نقطةُ انطلاقٍ، وهو المساوي في الوجود لِشكِ ديكارت المنهجي".
ويشيرُ ضمنياً إلى رواية سارتر "الغثيان" قائلاً أنَّ نظرياتِ هذه الروايةِ وتصوُّراتِها عن العبثية غيرُ متوازنةٍ، ومن ناحية أخرى أشاد كامو بأوصافِ سارتر عن العبثية عندَ تصويرِه مشاعرَ العذابِ والغثيان اللذَين قاما بسبب البِنى العاديةِ التي نشأتَ على أنقاضِ وجود أنطون روكونتين، إذ يجعلُ هذا النمطُ الروتينيُّ الشخصَ واعياً ومدركاً تماماً للعبثيةِ من حوله.
ويصفُ الوجودي جان بول سارتر بطلَ روايةِ الغريب لكامو على هذا النحو:
"لن ينتحرَ الرجلُ العبثيُّ، يريدُ أن يعيشَ، بدون أن يتخلَّى عن يقينه، بدونِ مستقبل، بدون أمل، بدون أوهام، وحتَّى بدون أن يستسلمَ، يُحدِّقُ بالموتِ باهتمامٍ شديدٍ، ويحرِّرُهُ سحرُ الموت، إنّه يختبرُ اللامسؤوليةَ الإلهيةَ للرجلِ المُدان".
وفي الفلسفة المثالية؛ كتبَ المؤرّخُ اليونانيُّ هيرودوت :"عندما تكون الحياةُ مُرهِقةً جداً يصبحُ الموتُ ملجأً مطلوباً"، وأمَّا الفيلسوفُ الألماني آرتور شوبنهاور في كتابِه "العالم إرادةً وتمثُّلاً" فقد نفى بأن يكونَ الانتحارُ عملاً غيرَ أخلاقيّ، بل من حقّ الإنسان أنْ يملكَ حياتَه، وفي قصةٍ رمزيةٍ؛ قارنَ بينَ إنهاءِ حياةِ الإنسان لنفسه عندما يتعرَّضُ إلى معاناةٍ كبيرة وأنْ يستيقظَ من النوم بعدما راودَه كابوسٌ مروِّع.
ومع ذلك فقد كان ينظِر إلى معظم حالاتِ الانتحار على أنّها فعلُ الإرادة، كما يحدثُ عندما يُنكِر الإنسانُ آلامَ الحياة، وذلك يختلفُ عن التخلّي الزاهدِ عن الإرادة الذي يرفضُ ملذاتِ الحياة.
وانطلاقاً من أنّ الانتحار أحدُ السلوكياتِ البشريةِ غيرِ المفهومةِ والمثيرةِ للجدل منذ القدم وحتى الوقت الحاضر؛ فقد ناقَشتهُ فروعٌ فلسفيةٌ متنوِّعةٌ مثل: علمِ النفس الأخلاقي، والفلسفةِ الأخلاقية، والفلسفةِ الاجتماعيةِ والسياسية، والميتافيزيقيا الشخصية، والإرادةِ الحرة ونظريةِ الفعل، إضافةً إلى مشاركةِ العلوم التجريبيةِ في تفسيرِ الانتحار.
*أصحاب الحجج: الليبرالية الكلاسيكية، تشيسترتون، إيمانويل كانط، ديفيد هيوم، جون لوك، جان جاك روسو، توماس هوبز، مذهب المنفعة، العبثية، العدميّة.
المصادر: