الموسيقا > الموسيقا والطب
ما هو العلاجُ بِالموسيقا؟ (مناهجُ العلاجِ المُستخدَمةُ مع الأطفال) ج1
لقد أُثبِتَ كلٌّ من العلاقةِ بين الموسيقا والمشاعر وقدرةِ الموسيقا على التأثيرِ في الصحتَين الجسديةِ والعقليةِ منذ زمن طويل؛ إذ كتبَ فيثاغورث وأفلاطون وأرسطو عن كيفيةِ تأثيرِ الموسيقا على الصحة والسلوك البشري، واستخدمت القبائلُ الموسيقا قديماً كجزءٍ من حياتهم وعلاجاتهم في بعض الأحيان وفي جميع أنحاء العالم، وظهرت موسيقا "العصر الجديد" في السبعينيَّاتِ بوصفها صنفاً موسيقياً جديداً استُخدِمَ في اليوغا والتأمُّلِ والاسترخاء.
تعريفُ العلاجِ بواسطة الموسيقا:
عرَّفتِ الجمعيةُ الأمريكية طريقةَ العلاجِ بالموسيقا بأنَّها: الاستخدامُ السريريُّ والمُعتمِدُ على الأدَّلةِ للتداخلاتِ الموسيقيةِ لأجلِ تحقيقِ أهدافٍ فرديّةٍِ ضمنَ علاقةٍ علاجيةٍ؛ وذلك تحتَ إشراف مُختصّين مُعتمَدين قد أنهَوا تدريبَهم على برنامَجِ علاجٍ بالموسيقا.
ويُستخدَمُ هذا العلاجُ في حلِّ عددٍ من المشكلاتِ العاطفيةِ والإدراكية والاجتماعية عند الناس من الفئات العمريةِ كافَّةً، ويُسهِم في علاجِ الكآبةِ، ويساعِدُ المرضى كبارَ السنِّ على التعامل مع فقدان الذاكرة المُرافِقِ لأمراضٍ مثل ألزهايمر، ويُخفِّفُ من الألم أيضاً؛ وخاصَّةً في حالةِ الأمراضِ المستعصية.
وغالبا ما يُطبَّقُ هذا العلاج على الأشخاصِ الَّذين يُعانون من أمراضٍ أو معوقاتٍ، ولكنْ يُمكِنُ لأيِّ شخصٍ - أيّاً كان عمرُه - أن يحظى بهذه الفوائدِ العلاجية، إذ يمكنُ أن توفّرَ عمليةُ الاستماعِ إلى الموسيقا منصَّةً للتواصلِ والتعبير قد تتجاوزُ بفعاليَّتِها التعبيرَ باستخدام الكلمات.
ومع التطوُّر والتقدُّمِ وظهورِ العديدِ من الأبحاث عن العلاج بالموسيقا؛ ظهرَتْ لدينا عِدَّةُ مناهجَ مختلفةٍ استُخدِمتْ للعلاج في حالاتٍ خاصَّةٍ وعامَّةٍ، وأشهرُ المناهجِ المُستخدَمةِ في العلاج بالموسيقا هي:
- منهج أورف Orff-Schulwerk.
- الرقصُ الإيقاعيُّ لدالكروز Dalcroze Eurhythmics.
- منهج كودالي Kodaly Method.
وظهرت أنواعُ علاجٍ جديدةٍ انبثقت مباشرةً من العلاجِ بِالموسيقا أيضاً؛ وهي:
- العلاجُ الموسيقيُّ العصبيُّ (NMT).
- علاج نوردوف-روبنز Nordoff-Robbins music therapy.
- طريقة بوني بالصور الإرشادية والموسيقا the Bonny Method of Guided Imagery and Music
ونستعرض في جزئنا الأوَّلِ من هذا المقال مناهجَ العلاجِ المُستخدَمةِ مع الأطفالِ، وأشهرُها:
1. طريقة نوردوف-روبنز:NORDOFF-ROBBINS
( تأثيرُ الموسيقا على الأطفالِ ذوي الاحتياجاتِ الخاصَّةِ)
تخلَّى "بول نوردوف" - خريجُ مدرسةِ جوليارد، والبروفيسور في الموسيقا، وعازف البيانو والمؤلف - عن مهنتِهِ الأكاديمية؛ وذلك عندما رأَى مدى تجاوبِ الأطفالِ ذوي الاحتياجات الخاصة مع الموسيقا إيجاباً، كي يبحثَ على نحوٍ أعمقَ عن إمكانيةِ استخدامِ الموسيقا وسيلةَ علاج.
وقد تعاوَنَ "كلايف روبنز" (مُدرِّسٌ خاصٌّ) مع "نوردوف" أكثرَ من 17 عاماً في عمليةِ دراسةِ تأثيرِ الموسيقا على الأطفالِ ذوي الإعاقة، وقد بدأا في المملكة المتحدة ثم في الولايات المتحدة في الخمسينيّات و الستينيَّات من القرن العشرين، وتضمَّنت مشاريعُهما الرائدةُ مراكزَ علاجٍ في وحدات العنايةِ بأطفال التوحد وقسمِ طبِّ الأطفالِ النفسي، إذ وُضِعَت برامجُ خاصَّةٌ بالأطفالِ الذين يعانون من اضطرابٍ عقليٍّ أو شعوريٍّ أو تأخُّرٍ بالنمو أو إعاقاتٍ أُخرى، وقد أدَّى نجاحهما في تأسيسِ طريقةِ تواصلٍ مع أطفالِ التوحُّد في جامعة بنسلفانيا إلى منحِ الجمعيةِ الوطنيةِ للصحَّة هبةً هي الأولى من نوعها في هذا المجال؛ إذ تضمَّنت دراسةَ "مشاريعِ العلاجِ بالموسيقا للأطفالِ المضطرِبين تحتَ السبعِ سنواتٍ في وحداتِ العنايةِ النهارية" مدّة خمسِ سنواتٍ بحثاً ونشراً وتدريباً ومعالجة.
وطُرِحَتِ العديدُ من الأعمالِ في هذه الفترة، ومنها: (علاجُ الأطفالِ المَعوقين بالموسيقا)، و(العلاجُ الموسيقيُّ الإبداعي)، و(العلاجُ بالموسيقا في التعليمِ الخاصّ)؛ إضافةً إلى الكتبِ الغنائيةِ للأطفال، وذاعَ صيتُ كلٍّ من "نوردوف" و"روبنز" عالميّاً في مجتمعِ الصحة بفضلِ نجاحِهم، وقد وُجِّهَت لهم الدعوةُ لِمشاركةِ اكتشافاتِهم والتدريب عليها في جولةٍ عالميةٍ استمرَّت سبعَ سنواتٍ، ومُوِّلَ إنشاءُ مركزِ "نوردوف-روبِنز" للعلاجِ بالموسيقا في بريطانيا العظمى عام 1974م، وافتُتِح مركزٌ في أستراليا في بداية الثمانينيّات من القرن العشرين، وافتُتِحتِ العديد من المراكز والمعاهد المتخصِّصة بالعلاج بالموسيقا في ألمانيا وبلدان أخرى أيضاً، وقد أُسِّسَ مركزُ "نوردوف-روبِنز" للعلاج بالموسيقا في الولايات المتحدة في نيويورك عام 1989م.
ويمارسُ مئاتُ المعالِجين في أنحاءِ العالم طريقة "نوردوف-روبِنز" الآن، والتي ترتكز إلى الإيمان بأنَّ كلَّ شخصٍ قادرٌ على إيجادِ معنىً ما والاستفادةِ من التجربة الموسيقية، ويركِّزُ هذا المنهج على العلاجِ بواسطةِ تأليفِ الموسيقا من قِبَلِ المُعالِج والمريض سويَّة، وتُستخدَمُ أساليبُ مختلفةٌ لِتُناسِبَ جميعَ القدرات.
2. منهج أورف للعلاج بِالموسيقا: Orff Music Therapy:
( تأثيرُ الموسيقا على الأطفالِ الذين يعانون من مشكلاتٍ في النموّ أو تأخُّرٍ أو إعاقةٍ)
طوَّرت "غرترود أورف" طريقةَ العلاج هذه، وقد تأثَّرت بكلٍّ من الإعداد السريريّ لطبِّ الأطفال ومنهجِ مدرسة أورف في التعليم الموسيقي (التي أوجدَها المؤلِّفُ الموسيقيُّ الألمانيُّ كارل أورف)، وقد استُخدِمت مع الأطفالِ الذين يعانون من مشكلاتٍ في النموِّ أو تأخُّرٍ أو إعاقةٍ.
لقد طُوِّرَ مجالُ طبِّ الأطفال الاجتماعي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية من قِبلِ (ثيودور هيلبرج Theodor Hellbrügge) الذي توصَّلَ إلى أنَّ العلاجَ باستخدامِ الطبِّ التقليدي وحدَه لا يمكنه أن يلبّيَ الحاجاتِ المعقَّدة للأطفالِ الذين يعانون من تأخُّرٍ في النموّ وإعاقة؛ فاستشارَ معالجين نفسيين ومهنيين في مجال الصحةِ العقليةِ طلباً للتزوّدِ من معرفتِهم ومهارتِهم في تشخيص أمراض الأطفال وعلاجها، وطلَب "هيلبرج" من "غرترود أورف" أن تأتيَ بصيغةٍ علاجيةٍ تعتمد على منهج مدرسة "أورف"؛ لمساعدةِ التطوُّرِ العاطفيّ لدى المرضى.
إنَّ العناصرَ المشترَكةَ في مناهجِ كلٍّ من التعليمِ الموسيقي والعلاجِ بالموسيقا تتضمَّنُ فهمَ طريقةِ عرضِ الموسيقا الكليةِ الّتي تحتوي كلماتٍ وأصواتاً وحركاتٍ، وتتضمّنُ استخدامَ الموسيقا والارتجالِ كمصدرِ تحفيزٍ إبداعيٍّ على البحثِ والاكتشافِ عند الأطفال، وتُستَخدَمُ الآلاتُ في منهج أورف كوسائلِ مشاركةٍ وتفاعلٍ في محيطِ الأطفال العلاجي؛ ومنها الأورغ والآلاتُ الإيقاعية، وأخيراً يستخدمُ المعالِجُ جوانبَ الموسيقا متعددةِ الحواس لتلبيةِ احتياجاتِ الطفل مثل الإحساسِ وسماعِ الأصوات، وإنَّ العواملَ الأساس في طريقة علاج أورف الموسيقية هي إمكانيةُ تطويرِ الطفل بتسليطِ الضوءِ على نقاطِ قوته لا جوانبَ الإعاقةِ لديه، وإيلاء الأهميّة لِلعلاقةِ بين الطفل والمعالِج، وذلك لأنَّ هذه العوامل تنسجمُ مع سلوكِ النفسِ الإنسانية.
وتأثَّرت أسُسُ النظرياتِ بالتأكيدِ القويّ على الدمج الاجتماعي ومشاركةِ الأهل في العملية العلاجية أيضاً؛ فإشراكُ الأهلِ بطريقةٍ مباشرةٍ أو مراقبتِهم طرائقَ المعالِج؛ يعطيهم فكرةً عن كيفيةِ التعامل مع طفلهم تعاملاً صحيحاً، وهذا يولِّدُ علاقةً إيجابيةً بين الطفل والأهل.
3.طريقة بوني بالصور الإرشادية والموسيقا: Bonny method of guided imagery and music
(علاجُ الأطفالِ بِالموسيقا وتأثيرُها على الأطفالِ المصابين بالتوحُّد)
طوَّرتِ المُعالِجة والمُدرِّسةُ الموسيقيةُ "هيلين ليندكويست بوني" (1921-2010) منهجاً مستوحىً من الرؤيةِ الإنسانيةِ النفسيةِ العابرةِ للشخصية، وعُرِفت بطريقةِ بوني بالصور الإرشادية والموسيقا (GIM)، وهي تقنيّةٌ تُستخدَمُ كعلاجٍ بديلٍ وطبيعيٍّ يتضمَّنُ استخدامَ صورٍ عقليةٍ تُساعدُ في شفاءِ الأمراضِ الجسديةِ والنفسيةِ عند المريض، ويقترِحُ المُعالِجُ صوراً مركَّزةً وتبعثُ على الاسترخاء عبر استخدامِ المُخيِّلةِ والنقاشِ، وتهدفُ إلى إيجادِ حلولٍ بنَّاءةٍ للمشكلات.
وطبَّقت "بوني" هذه الطريقةَ في العلاجِ النفسيّ على مجالِ الموسيقا عبرَ تسخيرِ الموسيقا أداةً لإيصال المريضِ إلى حالةٍ عليا من الإدراك، إذ يحدثُ الشفاءُ والوعي الذاتي البنَّاء، وتُعَدُّ الموسيقا - هنا - مُعالِجاً مُشارِكاً بسببِ أهميَّتِها.
ويُمكِنُ أن تُستخدَمَ طريقة "بوني" العلاجيّةُ هذه في علاج الأطفالِ في جلسةٍ خاصةٍ أو ضمنَ مجموعةٍ، وتتضمَّنُ تقنياتِ استرخاءٍ ومشاركةِ المشاعرِ الشخصية وكشفِ الهوية وفهمِ الذات وتحفيزِ نموِّ الشخصية، وتُنتقى الموسيقا للمرضى بعنايةٍ وفقاً لكلٍّ من ميولِهم الموسيقيةِ والهدفِ من الجلسة، وغالباً تكونُ مقطوعةً كلاسيكيةً يجبُ أن يتجلّى فيها عمرُ الطفل وقدراتُه على الانتباهِ، وذلك بمراعاةِ طولِها ونوعِها، ويجبُ أن تَشرحَ التمارينَ كاملةً بطريقةٍ مفهومةٍ مناسبةٍ لعمره.
وقد أظهرَ استخدامُ طريقةِ الصور الإرشاديةِ مع أطفالِ التوحُّد تراجُعَ أعراضِ سلوكِهم وتقليلَ فرطِ النشاطِ لديهم، فضلاً عن ازدياد مستوى تركيزهم وقابليتِهم لاتباعِ التعليماتِ، والتحسُّنِ في قدرتهم على التواصل الشفهي وغير اللفظي أيضاً.
وتُعَدُّ هذه المناهجُ الثلاثةُ أكثرَ المناهج انتشاراً واستخداماً لعلاجِ الأطفالِ المصابين، ولكن ماذا عن المرضى البالغين؟ تابعوا معنا الجزءَ الثاني من مقالنا الذي سنتحدثُ فيه عن العلاج الموسيقي عامةً وكيفيةِ عمل الممرضين بهذه الطريقة من العلاج، إضافةً إلى علاجِ الأمراض العصبية بمختلف أنواعِها عن طريق الموسيقا.
المصادر:
1-هنا
2-هنا
3-هنا
إعداد:
Rouba Khzaeim