الطب > مقالات طبية
عالمٌ بجانبٍ واحد
يُقسَم الجهازُ العصبيُّ إلى قسمين، مركزيٍّ ومحيطيّ، ويتألّف الجهازُ العصبيُّ المركزيُّ من النّخاعِ الشّوكي، والدّماغ الّذي يتكوّن بدوره من نصفيّ الكرةِ المخيّة، وجذعِ الدّماغ، والمخيخ. أمّا الجهازُ العصبيُّ المحيطيُّ فهو عبارةٌ عن شبكةٍ واسعةٍ جدّاً من الطّرقِ والسّبلِ العصبيّة الممتدّة عبر الجسم، تعبر من خلالها السّيالات العصبيّةُ الواردةُ والصّادرةُ إلى الجهازِ العصبيِّ المركزيّ.
وتتألّفُ القشرةُ الدّماغيّة; أي القسمُ الخارجيُّ من الدّماغ، في كلٍّ من نصفي الكرِة المخّيةِ من أربعةِ أقسامٍ تعرَف بالفصوص وهي: الفصُّ الجبهيّ (باللّون الأزرق)، الجداريّ (بالأصفر)، الصّدغيّ (بالأخضر)، والقفويّ (بالّزهري) ويتحكّم كلّ نصفِ كرةٍ مخّيّة بالنّصفِ المعاكس ِله بالاتّجاه من الجسد، وتبعاً لهذا التّوزيع، تختلف أعراضُ إصابة كلّ نصفٍ منهما.
تشكّل الحوادثُ الوعائيّةُ الدّماغيّةُ (CVA's) أو ما يسمّى بالسّكتة (STROKE) السّببَ الرّئيسيَّ لتضرّرِ الدّماغِ في العديدِ من الحالات، ويختلفُ أثرُها تبعاً لنوعها، وللمنطقةِ الّتي تصيبها أيضاً، وأمّا نوعا الحوادثِ الوعائيّةِ فهما: الاحتشاءُ الدّماغيّ ( ISCHEMIC STROKE) والنّزفُ الدّماغي (HEOMORRHAGIC STROKE)
ويقتصر الاحتشاءُ على قطاعاتٍ محدّدةٍ في إصابته، وذلك بحسب الشّريان المصابِ والمنطقةِ الّتي يغذّيها، أمّا النّزفُ فيتجاوزُ المنطقة أو الباحةَ المصابةَ إلى مناطقَ وباحاتٍ أخرى. ويمكنكم قراءة المزيد عن الحوادثِ الوعائيّةِ الدّماغيّةِ في مقالنا السّابق :
عموماً، وعند إصابةِ إحدى نصفي الكرةِ المخيّة، وخاصّةً بالحوادثِ الوعائيّةِ الدّماغية، فقد يحدثُ ما يُعرف بـ (العمه الشقّي* HEMIAGNOSIA) أو ما يسمّى بـ (HEMISPATIAL NEGLECT) أي إنكارُ نصفِ الحيّز، وقد يكون هذا الحيّزُ المنكَرُ الجسدَ نفسَه، وقد يكونُ العالمَ المنظور، وتعرَف حالةُ إنكارِ نصفِ الحيّز بكونها تناقصاً لإدراكِ المنبّهات في جهةٍ واحدةٍ من الفراغ، وقد لا يترافقُ بالضّرورةِ بفقدانٍ في الحسّ، وتنتجُ معظمُ هذه الحالاتِ عن إصابةٍ أحاديّةِ الجانبِ لنصفِ الكرةِ الأيمنِ على وجه الخصوص، وغالباً ما تتموضع هذه الإصابةُ في القسمِ السّفليِّ من الفصِّ الجداريّ الأيمن، أو الوصلِ الصّدغي - الجداريّ القريب منها، كذلك قد تحدُثُ هذه الحالةُ نتيجةً لأسبابٍ أخرى كرضوضِ الدّماغ، والأوراِم الدّماغية، ويمكن في حالاتٍ نادرة أن تحدث كنتيجةً لأنواعٍ من الأمراضِ تعَرف بالأمراض التنكّسيةِ العصبّية.
يفشلُ المصابون بهذه الحالةِ في التعرّفِ على الأجسامِ أو التّفاعلِ معها عند وجودها في الجهةِ المقابلةِ لنصفِ الكرة الدّماغيةِ المصاب، ويختلفُ مقدارُ هذا الإنكارِ بين إنكارِ المريض ِلوجودِ منبّهاتٍ بسيطةٍ كورقةٍ أو قلم، أو أجسامٍ ضخمةٍ نسبيّاً كالبشر، أو حتّى عدم التعرّف على أجزاءٍ من جسمهم نفسه في حياتهم اليوميّة، ويتظاهر هذا الأمرُ لدى المصابينَ بحلاقةِ نصفِ ذقونهم أحياناً أو تطبيقِ المكياج على نصفِ وجوههم دون النّصفِ الآخر، وقد لا يتمكّنون من استخدامِ أطرافهم في حال وجودِ ضعفٌ حركيّ فيها، أو حتّى دون وجود الضّعفِ الحركيّ.
الشكل 1 A-B أشكال مرسومة من قبل أشخاصٍ مصابين بالعمه الشقّي C اختبار على مريض بالعمه الشقّي
يوضّح الشّكلُ السّابقُ ميلَ المرضى المصابينَ في نصفِ الكرةِ الأيمنِ مع إنكارٍ للحيّز الأيسرِ إلى تجاهلِ العناصرِ الموجودةِ في الجهةِ اليسرى حين ينسخونَ أشكالاً بسيطة أو حين يرسمونها كرسم ساعةٍ مثلاً، وإلى تجاهلِ الأهدافِ الّتي يطلَب منهم إحاطتُها بدائرٍة حين تواجدها في النّصف الأيسر.
وبحسب آراءِ العلماء، يعود سببُ الإمراضيّةِ بالإنكارِ الحاصلِ إلى خللٍ في عدّة عناصر، والّتي تختلفُ بمجملها من شخصٍ لآخر، كما أنّ الآلياتِ الّتي تسبّبُ الإنكارَ ليست خاصّةً به، فقد يحدثُ بعض منها حدوثاً منفصلاً عند أشخاصٍ لا يعانون من العمه، ولكنّ اجتماعها مع بقيّةِ آليّاتِ الخللِ ستسبّب الإنكار.
هذا ويشيعُ أن تترافق هذه الحالةُ مع عمه العاهة أو الـ (ANOSOGNOSIA) حيث لا يعي المريضُ بوجود إصابتهِ وينكرها، كما قد يعاني من صعوبةٍ في فهمِ التّعابيرِ الوجهيّةِ لدى الآخرين أو أنماطهم الصّوتيّة الّتي قد تدلُّ على شعورهم أو عاطفتهم الحاليّة. كذلك قد تتجلّى الإصابةُ بحدوثِ عمهِ أقسامِ الجسدِ أو (ASOMATOGNOSIA) وهي تحتُ فرعٍ من الحالةِ السّابقة، وهنا يكون الإنكارُ شاملاً لأقسامٍ من الجسدِ نفسِه، كاليدِ مثلاً أو القدمِ أو حتّى نصفِ الجسدِ كاملاً، واعتُقِد سابقاً أّن هذا النّمط ينجمُ غالباً عن تضرّرِ القسمِ الخلفيِّ من الفصِّ الجداريِّ الأيمن، إلّا أن الدّراساتِ الحاليّةِ تظهرُ أنّه قد ينجمُ عن تضرّرٍ في القشرةِ أمام المحرّكة في نصفي الكرة المخيّة معاً.
يبيّنُ الشّكلُ السّابقُ الّذي يمثّل رسماً بيد مريضٍ حالةَ عمهِ أقسامِ الجسدِ لديه، إذ تختلفُ رسوماتُه ليدهِ بين الاختفاء التامّ لليدِ وبين عودتِها التامة.
يختلفُ تطوّرُ الحالةِ لدى المرضى من قسمٍ لآخر، فقد يبدي بعضهم تحسّناً خلال أشهرٍ قليلةٍ من الإصابةِ بالحادث المسبّب، وقد تدومُ لدى أولئكَ الّذين يبدون وجودَ أعراضٍ شديدةٍ لفترةٍ تتجاوز 6 أشهر، وتُعرف الحالةُ لدى هؤلاء المرضى بالإنكارِ المزمن.
تختلفُ طرقُ التّدبيرِ لهذه الإصابةِ من حالةٍ لأخرى، وتركّزُ في بدايتها تركيزاً أساسيّاً على تدبيرِ السّبب، وقد تشملُ إعادةَ التّرويةِ للمنطقةِ المحتشية، أو تدبيرِ الوذمةِ السمّيّةِ الحاصلة، وغيرها من التّدابير، ويرتكز التّدبير في المراحلِ التّالية على إعادةِ التّأهيلِ والمراقبةِ المشدّدةِ للمرضى في حالِ كانت سلامتُهم معرّضةً للخطر،إذ يمكن أن يكوَن هؤلاء المرضى أكثَر عرضةً للسّقوط أو حوادثِ التّصادم من غيرهم.
من غيرِ المعروفِ بعدُ ما إذا كان هناكَ إجراءاتٌ قادرةٌ على التّقليل من خطرِ حدوثِ العمهِ أو الإنكارِ بعد الحوادثِ الوعائيّة الدّماغية، إلّا أنّ دراساتٍ تُجرى حالياً سعياً لاستكشافِ هذه الإجراءات، ونتمنّى حصول ذلك قريباً .
*حاشية :
انتبه: عمه وليس عمى! العمهُ هو فشلُ الدّماغِ في فهمِ التّنبيهاتِ الحسيّةِ الواردةِ إليه من المحيط (لمسيّة، ضوئيّة، أو صوتّية)-رغم أنّه كان قادراً في السّابق على فهمِها- وذلك نتيجةً لأذيّة أجزاءٍ معيّنةٍ منه، وهنا تكونُ الحواسُ المحيطيّةُ والتّنبيهاتُ الصّادرةُ عنها طبيعيّة، إلّا أنّ الدّماغَ غيرُ قادرٍ على تفسيرها.
المصادر:
مصدر الحاشية: