الطب > متلازمات طبية
الكايميرا...عندما تكون توءَمَ نفسِك
ماهي الكايميرا؟
لفهمِ المعنى جيّداً دعونا نبدأ بفهم المصطلح وجذوره؛ فَالكايميرا كلمةٌ يونانيةُ الأصل تعني حرفياً "نثى الماعز she-goat"، وقد وصفَها "هوميروس" في ملحمتهِ الشعريةِ "الإلياذة" بأنَّها كائنٌ أسطوريٌّ مركّب وقاذفٌ للنار، ويتكون من ثلاثةِ حيوانات معاً: رأسُ أسد، وجسدُ ماعز، وذيلُ ثعبان . ولكن في وقتنا الحالي - وبِغضِّ النظرِ عن الأساطير اليونانية - تُعدُّ الكايميرا حالةً طبيةً توجَدُ عند النبات والحيوان وحتَّى عند الإنسان، ويقدّمها لنا علمُ الوراثة على أنَّ الكائنَ أو النسيجَ يحتوي على خطَّين مختلفَين من المادة الوراثية على الأقل، في حينِ أنَّ لكلِّ فردٍ منّا المادةَ الوراثيةَ ذاتها في جميعِ خلاياه في الحالات العادية، ولكن؛ في حالة الكايميرا أو ما يُسمَّى بالحالة الخَيمرية؛ يوجدُ خطٌّ خلَويٌّ إضافيٌّ قد يكون مُكتسباً كما في حالِ زرعِ الأعضاء (إذ للعضوِ المزروعِ مادةٌ وراثيةٌ مختلفةٌ عن مادةِ المتلقي)، أو في حالِ نقلِ الدم، أو انتقالِ الخلايا من الجنين إلى الأم، أو خَلقياً في أثناءِ التشكُّل الجنيني.
وسنتناول أولاً حالةَ التشكُّلِ الجنيني التي تنطبق على الشابة تايلور:
بدايةً؛ ولفهمِ الموضوعِ فهماً أعمق؛ تخيَّلوا معنا السيناريو الآتي الذي يصفُ تشكُّلَ ما يُدعَى بالكايميرا رباعيةِ الأعراس tetragametic chimerism في أثناءِ عمليةِ التشكُّل الجنيني:
نحنُ نعلمُ أنَّه بعدَ حدوثِ عمليةِ الجِماع ستنتقلُ الأعراسُ الذكرية (النطاف) إلى رحم المرأة؛ ومن هناك سوف تلتقي في مرحلةٍ ما مع البويضة الأنثوية أثناءَ انتقالها في الجهاز التناسلي الأنثوي، وفي حالتِنا هنا سنفترضُ وجودَ أربعِ خلايا من الأبوَين (نطفتَين من الأب، وبويضتَين من الأم)، إذ تلتقي كلُّ نطفةٍ مع بويضةٍ على حِدة لتشكّل جميعُها بيضتَين ملقَّحتَين بعدَ الإلقاح. وفي الحالةِ العاديةِ سوف تنمو هاتَان البيضتان وتعشِّشان في الرَّحِم لِتشكّلا في نهايةِ المطاف توءَمَين غيرَ حقيقيَّين (أي يمتلكُ كلٌّ منهما موادَّ وراثيةً مختلفةً عن الآخر). وأمّا في حالة الكايميرا فيحدثُ ما هو غيرُ متوقَّع؛ إذ تندمجُ البيضتان الملقَّحتان في مراحلِ نموِّهما المُبكِّرة سويَّةً في عمليةٍ تشبهُ الانصهار، وما يتبعُ عمليةَ الانصهار هو تشكُّلُ مضغةٍ؛ أي جنينٍ يمتلكُ موادَّ البيضتَين الملقَّحتَين الجينيةِ معاً؛ أي له خطَّانِ وراثيان مختلفان، أو كما يُقال بالعامية "اثنان بواحد". وهذا يعني أنَّ الفرد الكايميرا يمتلكُ أنسجةً في جسدِه مكوَّنةً في الواقعِ من توءَمه الذي انصهر معه أثناء التكوُّنِ الجنيني، فمثلاً قد تكون خلاياهُ الدمويةُ غيرَ متطابقةٍ وراثيّاً مع خلايا الرئةِ أو الأمعاءِ، ويمكن لعضوٍ واحدٍ من جسمِه أن يمتلك النوعَين سويّةً أيضاً.
وعندَ هذهِ النقطةِ يجبُ التنويهُ إلى أهميةِ فهمِ الفرق بين الكايميرا والتزيُّق (الفسيفسائية) mosaicism؛ فالفرد المُزَيَّق يمتلكُ بالفعلِ خطَّين وراثيَّين مختلفَين أيضاً، ولكن يتجلّى الفرقُ بينهما في كونِ هذين الخطَّين ناتجَين من بيضةٍ ملقَّحةٍ وحيدة! (غالباً نتيجةَ أخطاءٍ في عملياتِ الانقسام الخلَويّ أثناءَ التشكل الجنيني، ويمكنك البحثُ مثلاً في فسيفسائيةِ متلازمة داون)
وأمّا الأفرادُ الكايميرا فقد يمتلكون صفاتٍ مختلفةً بحسبِ اختلافِ الأنسجةِ المتأثِّرةِ؛ إذ يمكنُ أن تتجلَّى على شكلِ تصبُّغاتٍ في الجلد؛ وهي حالةُ الشابة تايلور، أو تتجلّى في اختلاف لون العينَين، أو امتلاك أعضاءٍ تناسليةٍ غامضة، أو امتلاك زمرَتي دم….الخ. ولكن غالباً ما يستعصي استكشافُ حالةِ الكايميرا في الأفراد؛ لعدم وجودِ أعراضٍ جسديةٍ تدلُّ عليها.
وما يجب ذكرُه هنا هو إحدى التَّبِعاتِ المُحتمَلة لأفراد الكايميرا؛ ألا وهي بدءُ خلايا الجهاز المناعي بمهاجمةِ خلايا الأخ التوءم - والتي هي حقيقةً خلايا الجسمِ نفسِه - ممَّا قد يؤدّي إلى تطوُّرِ أمراضِ مناعةٍ ذاتية.
ومن أحدِ أشكال الكايميرا أيضاً هو الكايميرا الميكروية microchimerism التي تحدثُ عند انتقال جزءٍ صغيرٍ من خلايا فردٍ إلى شخص آخر، فمثلاً يحدثُ هذا عندَ الحمل أيضاً؛ إذ قد يهاجرُ عددٌ قليلٌ من خلايا الجنين إلى دم الأم وأجهزتِها المختلفة، ويعتقد الباحثون أنَّ هذا يحدثُ في كلِّ حملٍ تقريباً، حتى ولو فترةً قصيرةً، ولكنْ ممّا يجدر ذكرهُ هنا أنَّ هناك دراساتٍ بيَّنت أنَّ هذه الخلايا الجنينية قد تبقى في جسمِ الأمّ فتراتٍ طويلةً، بل قد تبقى طوالَ مدّة الحياةِ.
وما يثيرُ اهتمامَ العلماءِ هو أثرُ هذه الخلايا على الأم، فقد ربطتها بعضُ الدراسات بآثارٍ جيدةٍ على جسم الأم؛ إذ اعتقدتْ أنَّ الخلايا الجنينيةَ المُنتقِلةَ قد تساعدُ في تجديدِ خلايا الأم، ممَّا قد يفسِّرُ طولَ حياةِ النساءِ مقارنةً بالرجال، وذاكَ في حين ربطتها دراساتٌ أُخرى بآثارٍ سيئةٍ مثلَ تطوُّرِ أمراضِ المناعة الذاتية أو السرطانات المختلفة. وخلاصةً يمكننا القول أنَّ أهميةَ هذه الخلايا مازالت غيرَ مفهومةٍ تماماً، وقد نَجِدُ آراءً متضاربةً في هذا الشأن في المصادر المختلفة.
لقد كان لظاهرةِ الكايميرا تبِعاتٌ على المجالاتِ المختلفةِ أيضاً، مثل مجالِ زراعةِ الخلايا الجذعية الدموية وزرعِ الأعضاءِ، إضافةً إلى فحوصاتِ الدنا، وخاصَّةً في مجالِ العائلة والقانون الجنائي. ولنأخُذْ على سبيلِ المثال قضيةَ "ليديا فيرتشايلد" التي قُدِّمت إلى المحكمة بعدَ اختبار للحمض النووي الذي أظهر على ما يبدو أنَّ أبناءَها لا يمكنُ أن يكونوا خاصَّتها! وقد طُعِنَ في حضانتِها لأولادها لكنَّ التُّهَمَ أُسقِطت حين وجدَ الأطبّاءُ دنا مطابِقاً لأولادِها في خلايا عنقِ الرَّحِم في جسمها، وعندها أُثبت قطعاً أنَّ "ليديا" هي حالة كايميرا. وأمَّا القضيةُ الأُخرى فكانت بطلتُها "كاري كيغان"، والتي واجهَت خطرَ فقدانِ أولادها أيضاً بعدَ أن أظهرَ فحص دنا - أُجرِيَ لأجلِ عمليةِ زَرعِ كُلى - أنَّها ليستِ الأمُّ الطبيعيةُ لأبنائها.
والآن؛ عزيزي القارئ؛ أخذين بعين النظرِ أنّ العلماء يقولون أنَّ واحداً من كلِّ ثمانيةِ أشخاصٍ هو توءَمٌ لكنّه وُلِد وحيداً، فهل تعتقدُ أنَّ هناك إمكانيّةً لتكونَ أنت نفسُك ناتجَ انصهارٍ مع أخيك التوءَم؟!
المصادر: