الاقتصاد والعلوم الإدارية > اقتصاد
تاريخٌ موجزٌ عن "البلوكتشين" Blockchains
إنَّ العديدَ من التقنياتِ التي ننظرُ إليها الآن على أنَّها تقنيَّاتٌ مَفروغٌ من وجودِها كانتْ في الحقيقةِ ثورةً ضخمةً في الوقتِ الذي اكتُشِفتْ فيه، ففي الماضي مثلاً؛ عندما كانَ الشخصُ يغادرُ مكتبَه أو بيتَه كانَ من الصعبِ الوصولُ إليه والتحدثُ معَه؛ لأنَّ الهاتفَ مرتبطٌ بالمكانِ، وأمَّا الآنَ - بعدَ اختراعِ الهواتفِ المحمولةِ والذكيَّةِ - أصبحَ كلُّ شيءٍ مختلفٌ حتى طريقةُ حياتِنا وعملِنا، إذْ يمكنُ إنجازُ أعمالٍ كثيرةٍ بواسطةِ الهاتفِ فحسب، ومن المعروفِ أنَّ الهواتفَ الذكيةَ ظهرتْ في السنواتِ العشرِ الماضيةِ فقط!
فنحنُ الآنَ، نشهدُ ثورةً ضخمةً أخرى وهي "البلوكتشينز" Blockchains، والبلوكتشين: هي قاعدةُ بياناتٍ ضخمةٌ تحافظُ باستمرارٍ على قائمةٍ متزايدةٍ من السجلَّاتِ المطلوبةِ والتي تُدعَى "بلوكس" Blocks.
لنراجعُ ما حدثَ خلالَ السنواتِ العشرِ الماضيةِ:
- أولُ ابتكارٍ رئيسيِّ للبلوكتشين: كانَ العملةَ الرقميةَ المعروفةَ باسمِ "بتكوين" Bitcoin، وتتراوحُ القيمةُ السوقيةُ للبتكوين الآن بين 10-20 مليارَ دولارٍ، وتُستخدَمُ في الدفعِ من قِبلِ ملايينَ الأشخاصِ متضمّنةً أسواقَ التحويلاتِ الكبيرةِ والمتزايدةِ.
- الابتكارُ الثاني: أُطلِقَ عليه اسمُ البلوكتشين، وكانَ متمثِّلاً في إدراكِ أنَّ التكنولوجيا التي تعملُ بها البيتكوين يمكنُ فصلُها عنِ العملةِ واستخدامِها في جميعِ أنواعِ المعاملاتِ التي تحدثُ بينَ المنظماتِ؛ وتُجرِي جميعُ المؤسساتِ الماليةِ الأساسيةِ في أنحاءِ العالمِ بحوثًا عن البلوكتشين، ومن المتوقع أن تُستخدَم هذه التقنيةُ من قِبَلِ 15% من البنوك في عام 2017.
- سُمِّيَ الابتكارُ الثالثُ: بـ "العقد الذكي" Smart Contract، وهوَ متجسدٌ في نظامِ الجيلِ الثاني من البلوكتشين الذي يُدعى "إثيريوم" Ethereum، والعقودُ الذكيةُ: هي عقودٌ ذاتيةُ التنفيذِ؛ إذ تكونُ شروطُ الاتفاقِ بينَ البائعِ والمشتري مكتوبةَ مباشرةً على خطوطِ الشيفراتِ الخاصةِ بها، وتوجدُ هذهِ الشيفراتُ والاتفاقاتُ الواردةُ فيها على شبكةِ بلوكتشين لامركزيةٍ، وتملكُ منصةُ إثيريوم للعقدِ الذكيِّ حالياً قيمةً سوقيةً تُقدَّرُ بقرابةِ مليار دولار؛ مع وجودِ المئاتِ من المشروعاتِ المتجهةِ إلى السوقِ.
- الابتكارُ الرابعُ: والذي يُمثِّلُ التطوُّرَ الأكثرَ حداثةٍ في تكنولوجيا البلوكتشين يُدعَى "دليلَ المُلكيةِ" Proof of Stake، فالجيلُ الحاليُّ من البلوكتشينز محميٌّ بــ "دليلِ العملِ" Proof of Work، والذي تتخذُ المجموعةُ - التي تمتلكُ أكبرَ قدرةٍ كليةٍ حاسوبية - القراراتِ بواسطتِه، وتُدعى هذه المجموعات “miners”، وهي تعملُ في مراكزِ بياناتٍ واسعةٍ لتأمينٍ هذه الحمايةِ، وتحصلُ في المقابلِ على مدفوعاتٍ من العملاتِ المشفرةِ Cryptocurrency Payment، وتلغي النظمُ الجديدةُ مراكزَ البياناتِ هذهِ وتستبدلُها بأدواتٍ ماليةٍ معقدةٍ لها درجةُ الحمايةِ ذاتِها وحتَّى أعلى منها، ومن المتوقعِ أنْ تبدأَ أنظمةُ دليلِ المُلكيةِ بالعملِ في وقتٍ لاحقٍ هذا العام.
- الابتكارُ الخامسُ: الذي يلوحُ في الأفقِ يُسمَّى "تحجيمُ البلوكتشين" Blockchain Scaling، ففي عالمِ البلوكتشين الآنَ؛ فإنَّ كلَّ حاسوبٍ على الشبكةِ يعالِجُ كلَّ معاملةٍ؛ مما يؤدّي إلى البطءِ، والبلوكتشين المُحجَّم scaled blockchain يُسرِّعُ من هذه العمليةِ دونَ التضحيةِ بالأمانِ؛ وذلكَ عن طريقِ معرفةِ عددِ الحواسيبِ اللازمةِ للتحقُّقِ من صحّةِ كلِّ معاملةٍ وتقسيمِ العملِ بينَ الحواسيبِ بكفاءةٍ، وإنَّ تحقيقَ ذلكَ دونَ المساسِ بدرجةِ الأمانِ العاليةِ والمتانةِ التي يتمتعُ بها البلوكتشين قدْ يكونُ مَهمَّةً صعبةً؛ ولكنَّها لنْ تكونَ مستحيلةً، ومنَ المتوقَّعِ أنْ يكونَ البلوكتشين المُحجَّمُ سريعاً بما فيهِ الكفايةُ لينافسَ وسطاءَ الدفعِ الرئيسيينَ الحاليينَ منَ العالمِ المصرفيِّ (فيزا VISA وسويفت SWIFT).
وكلُّ ما ذُكرَ يُمثِّلُ عشرَ سنواتٍ فقطْ من عملِ مجموعةِ النُّخبةِ من علماءِ الكمبيوتر - المُشفِّرين والرياضيين - فعندما تَصِلُ الإمكانياتُ الكاملةُ لهذهِ الابتكاراتِ إلى المجتمعِ؛ فمن المؤكدِ أنَّ عديداً من الأمورِ ستتغيرُ وستصبحُ غريبةً علينا؛ فالسياراتُ والطائراتُ ذاتيةُ القيادةِ سوفَ تَستخدِمُ البلوكتشينز للدفعِ مقابلَ الخدماتِ مثلَ الدفعِ لمحطاتِ الشحنِ ومنصاتِ الهبوطِ، وسوف تستغرقُ تحويلاتُ العملاتِ الدوليِة ساعةً بدلاً من عدةِ أيامٍ، وقد تستغرقُ عدةِ دقائقَ فقط، ومع درجةِ موثوقيةٍ أعلى مما يقدمُه النظامُ الحاليُّ.
وسوف تُسبِّبُ هذهِ التغيراتُ وغيرُها انخفاضاً كبيراً في تكاليفِ المعاملاتِ، وعندما تنخفضُ هذه التكاليفُ على نحوٍ ملحوظٍ سيكونُ هناكَ اتفاقاتٌ واعتراضاتٌ مفاجئةٌ وكبيرةٌ ولا يمكنُ التنبؤُ بها من قِبَلِ نماذجِ الأعمالِ الحاليةِ؛ فمثلاً؛ كانتِ المزاداتِ محليةً وضيقةً قبلَ أنْ تصبحَ عالميةً مع وجودِ المواقعِ الإلكترونيةِ مثلَ eBay إذْ حدثَ تغيرٌ كبيرٌ ومفاجئٌ في النظامِ نتيجةً لانخفاضِ تكلفةِ الوصولِ إلى الأشخاصِ، فمنَ المتوقعِ أنْ يُحدِثَ البلوكتشين تغيراتٍ مماثلةً كما فعلتِ التجارةُ الإلكترونيةُ منذُ اختراعِها عامَ 1990.
وفي الحقيقةِ؛ يَصعُبُ التنبُّؤُ بالاتجاهِ الذي ستؤولُ إليهِ الأمورُ؛ فهلْ توقَّعَ أحدٌ ظهورَ مواقعِ التواصلِ الاجتماعيِّ؟ وهل كانَ من المتوقعِ استبدالُ الوقتِ الذي كنَّا نقضيه في مشاهدةِ التلفاز بقضائه متتبّعينَ وسائلِ التواصلِ كما هو الآن؟ فعادةً ما يبالغُ المتنبؤونَ بتقديرِ سرعةِ حدوثِ شيءٍ ما ويقللونَ في تقديرِ الآثارِ طويلةِ الأجلِّ، ولكنَّ الحجمَ الكبيرَ في صناعةِ البلوكتشين أنبأنا أنَّ التغيراتِ القادمةَ ستكونُ كبيرةً كما كانتْ عندَ اختراعِ الإنترنتْ نفسِه، وهذا الأمرُ قدْ لا يكونُ مبالغًا فيه، ويمكنُ القولُ بأنَّه مع ازديادِ عددِ الأفرادِ الذينَ يعملونَ به سوفَ يمتدُ البلوكتشين ليشملَ كلَّ شيءٍ، وبالنظرِ إلى ما وصلَ إليهِ في عشرةِ أعوامٍ، فإنَّ المستقبلَ يمكنُ أنَ يصلَ أسرعَ ممَّا يتوقَّعُه أيُّ شخصٍ.
وحتى عامِ 1990؛ كانَ من المستحيلِ استخدامُ بطاقةِ الائتمانِ على نحوٍ آمنٍ على الإنترنت، ولم تكُنِ التجارةُ الإلكترونيةُ موجودةً ببساطةٍ؛ فما مدى سرعةِ إحداثِ البلوكتشين تغييرًا ثوريًّا آخرَ؟
لِننظُرْ إلى إستراتيجيةِ بلوكتشين دبيّ وهو إصدارُ جميعِ الوثائقِ الحكوميةِ على البلوكتشين بحلولِ عامِ 2020 مع مشروعاتٍ أوليةٍ كبيرةٍ أُعلِنَ عنها في بدايةِ هذا العامِ، ويستندُ مفهومُ "إنترنت الاتفاقاتِ" Internet of Agreements الذي عُرضَ في قمةِ الحكومةِ العالميةِ إلى هذهِ الإستراتيجية والتي تهدفُ إلى تحقيقِ تحوُّلٍ كبيرٍ في التجارةِ العالميةِ باستخدامِ البلوكتشينز من أجلِ التخلصِ من بعضِ الصعوباتِ التي سبَّبها خروجُ بريطانيا من الاتحادِ الأوروبيِّ Brexit والانسحابُ الأمريكيُّ الأخيرُ من شراكةِ المحيطِ الهادي؛ فهذهِ الخُططُ الطموحةُ تحتاجُ إلى إثباتها عملياً، ولكنَّ التوقعاتِ في دبيّ أنَّ كلّاً من الانخفاضِ في التكاليفِ ومزايا الإبداعِ سوف يُبرّران تكلفةَ التجريبِ.
ووفقاً لــ Mariana Mazzucato؛ فإنَّ الابتكارَ في البنيةِ التحتيةِ غالباً ما يكونُ في يدِ الدولةِ، ويبدو أنَّ ذلكَ ينطبقُ على البلوكتشين أيضاً.
المصدر: هنا