التعليم واللغات > اللغويات
أربعة في واحد: البهاسا المختلطة، كنزٌ ماليزيٌّ فريد
إن اللغةَ الرسميةَ لأيةِ دولةٍ هي هُويَّتُها ومنظارٌ نرى عبره ثقافةَ تلك الدولة وتاريخَها، وعادةً ما تتخذُ كلُّ دولةٍ لغةً واحدةً لتكون لغتَها الرسمية، وقد تختار بعضُ الدولِ لغتين رسميتين، لكن في ماليزيا فقط ستجدُ أربعَ لغاتٍ مختلفةً ممتزجة، تتصارعُ فيما بينَها لكسب الاهتمام تحتَ مِظلةٍ لغويةٍ موحدة. اِستمع إلى محادثةٍ في شوارع كوالالمبور، وستجد الناسَ يتكلمون لغةَ (ملايو) متجانسةً مع أربعِ لغاتٍ أخرى، يتكلمون لغةَ (ملايو) مملوءةً بالعبارات الإنكليزية أو الماندرينية أو التاميلية، وهذه اللغاتُ تزدادُ مفرداتُها وتنقصُ ضمن المحادثة حسب تكيُّفِ الجمهور والموضوعِ المطروح.
مرحبًا بكم في عالم البهاسا روجاك Bahasa Rojak، هذا العالمُ المثيرُ لِلُغةٍ تشكّلت داخلَ بوتقةِ انصهارٍ ثقافيةٍ متنوعة في ماليزيا، لكنَّ هذا النهجَ الماليزيَّ -وإن بدا فريداً ومفيداً في تمكينِ شعبٍ تعددتْ مجموعاتُه العرقيةُ من التواصلِ فيما بينَه- يواجِهُ الانتقادَ لأسبابٍ تبدو منطقيةً أحياناً، فما هي تلك الأسباب؟
الملايو هي اللغةُ التي تُشكِّلُ حجرَ الأساسِ للُغة البهاسا روجاك، ويرى الكثيرُ من الماليزيين، وخاصة العاملين في الشؤون الرسمية، أن هذه اللغةَ المختلطةَ -وإن كانت تحظى بشهرةٍ وقَبولٍ من أهل البلاد- تشكلُ تهديداً حقيقياً على اللُّغة الأم.
لكن كيف صنعَ الماليزيون هذه اللغةَ الرائعة؟ وهل نستطيعُ أن نقول إنَّها أسلوبٌ حديثٌ لتبسيطِ الثقافةِ واللغةِ الملاوية؟
ما اتضحَ هو أن البهاسا روجاك -والتي تعني حرفياً "لغة الملايو المختلطة"- ليست نتاجاً من لعنةِ العولمةِ الحديثة، بل تعود إلى كون ماليزيا منطقةً متعددةَ اللغاتِ والثقافاتِ منذ قرون بعيدة، إذ كانت مفترقَ طرقِ تجارةٍ ملقا (أو ميلاكا بِلُغة البهاسا)، وشكَّل هذا البوابةَ الأولى لذلك الاختلاط والتعدد.
شَهِد ميناءُ ملقا منذ تأسيسه في القرن الخامسَ عشر نشاطاً كبيراً، وعندما وصلت القوى الاستعماريةُ الأوروبية أضافت البرتغاليةَ والهولنديةَ والإنكليزيةَ إلى مزيج اللغات العربية والصينية والهندية والملاوية التي يتحدث بها أهل الأكواخ المحاذية للبحر.
كان لابد من التواصل من أجل الأغراضِ التجارية، وكان التجارُ والبحارةُ على حدٍ سواء يتحدثون عدةَ لغاتٍ في وقت واحد وكلُّ طرفٍ منهم يتطلعُ إلى فهمِ الأطرافِ الأخرى باستخدام مجموعةِ عباراتٍ من أكثرَ من لغة، وهكذا وُلدت القدرةُ الماليزيةُ على مزجِ اللغات، وتحويلِ ذلك المزيجِ إلى لغةٍ مبسطة.
لم تصلنا البهاسا روجاك الحديثةُ حتماً كما كانت عليه منذ ذلك الزمن البعيد عندما كان المضيقُ الماليزي مركزَ التجارةِ بين الشرق والغرب، لكن بسبب استمرارِ اختلاطِ اللغاتِ والاقتراضَ فيما بينها ضمن مجتمعٍ مزدهرٍ استطعنا اليومَ أن نرى ما يجمع الملايو والصينيين والتاميليين. كانت اللغةُ الإنكليزيةُ أيضاً تُشكِّل جزءاً كبيراً من المشهد اللغوي في ماليزيا حتى بعد الاستقلال، وأصبحت أكثرَ انتشاراً منذ ظهور العولمة التي جعلتها لغةَ العملِ الدولية.
أما الشبابُ الذين يتطلعون إلى العالم الكبير، فقد اكتسبوا اللغةَ الإنكليزية عبر الإنترنت والتلفزيون والأفلام، وأضافوا المزيدَ منها إلى نُسخَتهم الجديدةِ من اللغة المبسطة، وذلك لإضفاء لمسةٍ عالميةٍ رائعة، ويُطلق على هذا المزيج أحياناً اسمُ "مانجليش" Manglish. إن حقيقةَ أن البهاسا روجاك قادمةٌ جزئياً من العالم الخارجي يُوضِّح سببَ استمرارِ الجيل الماليزي الأكبرِ سناً في استخدامها، فَهُم شهودٌ على بدايةِ الهجوم على ثقافة الملايو، وقد أدى ذلك إلى محاولةِ الحكومة الماليزية دحرَ موجةِ البهاسا روجاك والتأكيدَ على لغة الملايو الخالصة كلغةٍ للتواصل الرسمي، فأُعطيت محطاتُ التلفاز أوامرَ بالتخلصِ مما سُمِّي بـ"تلوثَ اللغة"، ويُقصد به البهاسا روجاك، وطال ذلك حتى الرسومَ الكرتونيةَ التي حُذفت حواراتِها المحكية بهذه اللغة.
وبلغت قوةُ اللغة ذروتَها عند التخلي عن سياسةٍ تعليميةٍ وطنية كانت تنطوي على تدريسِ الرياضيات والعلوم باللغة الإنكليزية، وقد كانت الفكرةُ منها رفعَ مستوى اللغة الإنكليزية في ماليزيا إلى المستوى الذي بَلَغَتْه سنغافورة، ومساعدةَ الماليزيين على المدى البعيد في المشاركة مشاركةً كاملةً في الاقتصاد العالمي الجديد. كان جميعُ الأهالي الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى مؤيدين لتلك السياسة، لكن المدافعين عن نقاء الملايو الثقافي لم يكن لهم الرأيُ ذاتُه. فهل سيتجدَّدُ الدفاعُ عن لغة الملايو الرسمية؟ وهل سيؤدي التقويضُ الرسميُّ للباهاسا روجاك إلى تلاشيها في نهاية الأمر؟ إذا ما استطعنا أن نعتدَّ بتجربة فرنسا، فإن البهاسا روجاك لن تنتهي؛ بَذلت الحكومةُ الفرنسيةُ جهوداً كبيرةً للدفاع عن اللغة الفرنسية من هجوم اللغة الإنكليزية Franglais، ولكنْ -بعد عقودٍ من تلك المواقف- مازلنا حتى اليوم نرى أن العباراتِ الإنكليزيةَ تجدُ مكاناً لها ضمن الخطابِ اليومي في فرنسا.
على كل حال، اللغةُ مخلوقٌ حيٌّ؛ بإمكانها أن تستوعبَ وتتكيفَ وتتغيرَ باستمرار، وأولئك الذين يقودون التغييراتِ، في أيِّ مجتمع، هم وَرَثةُ اللغةِ، أي الشباب، ولكون البهاسا روجاك ما تزالُ عالقةً في الاندماج الثقافي للعولمة، ومن المحتمل أن تتطورَ الكلماتُ التي تستخدمها أيضاً. ربما يمكنُ للماليزيين من جميع الاتجاهاتِ والجماعاتِ أن يتعلموا حبَّ البهاسا روجاك على ما هي عليه، أن يُحبّوا لغتَهم التي تتمتعُ بقابليَّةٍ فريدة للتكيُّف، اللغةُ التي تضيفُ إلى قاموسِها أيةَ كلمةٍ تحتاجُ إليها مهما كان أصلُها ومرجُعها، لغةٌ تملكُها ماليزيا كلُّها.
المصدر:
الدراسة المرجعية: