الاقتصاد والعلوم الإدارية > العلوم المالية
البلوكتشين وتطبيقاتُها في عالمِ المالِ
ولفهمٍ أعمقَ لعمليةِ التَحولِ التي أحدثتها وتُحدثها تكنولوجيا البلوكتشين (Blockchain)؛ لا بدَّ لنا أنْ نبدأَ بأكبرِ تطبيقاتِ هذهِ التكنولوجيا وأهمِّها حتى الآن؛ ألا وهي البتكوين (Bitcoin)، ففي عامِ 2014 أجرت الباحثة كاترين تاكر والباحث كريستيان كاتليني من معهدِ ماساشوستس للتكنلوجيا (MIT) تجرِبةً واسعةَ النطاقِ شَمِلت 4494 طالبًا جامعيًا؛ إذ عُرِضَ على الطُلاب في ذلك الوقتِ اقتناءَ بيتكوين مقابلَ مبلغٍ ماليِّ قدرهُ 350 دولار أمريكي للبيتكوين الواحد؛ فاشترى أغلبُ الطلابِ الخاضعِين للتجربةِ الوحداتِ الماليةَ الرقميةَ (البتكوين) بهدفِ الادخارِ متوقعِينِ أنَّ سِعرَها سيرتفعُ في المستقبلِ، وصدقتْ توقعاتُ الطلابِ فارتفع سعرُ البيتكوين في بدايةِ نيسان ـ2018 إلى ما يقارب الـ 8000 دولار أمريكي للوِحدةِ الواحدةِ؛ مما يشيرُ إلى أنَّ غالبيةَ الطلابِ المشاركِين في التجربةِ أدركوا أنَّ واحدةً من أهمِّ استخداماتِ البتكوين الأوليةِ ستكونُ المضاربةُ.
وتُواجِهُ العُملاتُ المُشفرةُ Cryptocurrency منذُ ظهورِها كثيرًا من الانتقاداتِ والشكوكِ عن قُدرتِها على محاكاةِ أداءِ شبكاتِ الدفعِ التقليديةِ في تلبيةِ احتياجاتِ النُظمِ الماليةِ والحكوميةِ؛ لكنَّ النتائجَ التي حققَتْها البيتكوين جاءَتْ معاكسةً لهذهِ التشكيكاتِ؛ فقد حلَّتِ البيتكوين جميعَ المشكلاتِ التي كانتْ قد صُمِمَتْ لحلِِّها، ومنها: التعاملُ على نحوٍ آمنٍ، وتبادلُ القيمةِ ضِمنَ شبكةٍ عالميةٍ دونَ الحاجةِ إلى إضافةِ تكاليفِ الوسطاءِ الماليين، كما ضاعفتِ البيتكوين قدرةَ الأنظمةِ الماليةِ على تبادلِ القيمةِ.
وعندما نُشاهدُ النموَ المتسارعَ للعُملاتِ المُشفرةِ لا يسعُنا إلا السؤالَ؛ هل يمكنُ تطبيقَ هذهِ التكنولوجيا في مجالاتٍ أخرى؟
وليسَ من المستغربِ أنَّ أبرزَ تطبيقاتِ هَذهِ التكنولوجيا كانتْ في القطاعِ الماليِّ، فكما رأينا في التجربةِ السابقةِ الذكرِ أنَّ التجارةَ والمضاربةَ الماليةَ كانتْ أهمَّ الاستخداماتِ الأوليةِ للبيتكوين؛ لكنْ معَ الأيام ظهرتِ استخداماتٌ جديدةٌ مع بُروزِ تقنياتٍ جديدةٍ مثل Zcash و. Ethereum
إذ قَدمت Zcash درجاتِ خُصوصيةٍ عاليةٍ متفوقةٍ بذلك على البتكوين. كما تمكنتْ Ethereum من تأمينِ مِنصةِ تطويرِ قويةٍ للعقودِ الذكيةِ والتطبيقاتِ اللامركزيّةِ؛ ومن هنا يُمكننا القولُ أنَّهُ - وفي ظِلِّ نضوجِ العُملاتِ المُشفرةِ - فإنَّ المَحافظَ الرقميةَ والتبادلاتِ الماليةَ أصبحتْ أكثرَ أمنًا ومهنيةً مما سبقَ.
هذا وقدِ استفادتْ كثيرٌ من الشركاتِ المشابهةِ لشركتيّ Circle وAbra من التكاليفِ المُخفضَة المُقدمَة بسببِ البلوكتشين بعملياتِ الدفعِ الدوليةِ منافسين بذلكَ العديدَ من المشاركِين الأساسيين في مجالِ التحويلاتِ الماليةِ مثل Venmo وTransferWise. كما تستكشف شركتا Visa وMastercard وتستطلعُ إمكانيةَ استخدامِ تقنياتٍ مشابهةٍ لتحسينِ طُرقِ معالجةِ الدفعاتِ الماليةِ، وفي جميعِ الحالاتِ المذكورةِ فإنَّ تكنولوجيا البلوكتشين مكَّنت المُستهلكِين والشرِكات على حدٍ سواءٍ من جني مزيدٍ من الفوائدِ.
ومن الممكنِ تطبيقُ نفسِ الشيءِ على التمويلِ التجاريِّ والأصولِ الماليةِ؛ إذ حاولتِ شركاتٌ مثلَ Digital Assets Holding التي تُديرُها مجموعةُ JPMorgan وشركةُ Blockstream من إحداثِ ثورةٍ في طريقةِ إصدارِ الأصولِ الماليةِ وإدارتِها؛ وذلكَ من خلالِ تبني تقنياتٍ مشابهةٍ بهدفِ تحسينِ الكفاءةِ إضافة إلى تخفيضِ التكاليفِ.
ولا تتوقفُ عملياتُ البحثِ في مجالِ البلوكتشين على الشركاتِ وحسبْ؛ بل تشملُ البنوكَ المركزيةَ؛ إذ تَسعى السُلطاتُ النقديةُ جاهدةً لاكتشافِ الفُرصِ والتحدياتِ التي ستترتبُ على السياساتِ النقديةِ والضرائبِ والإقراضِ في حالِ توسعِ البلوكتشين.
لكنَّ التطبيقاتِ العمليةَ لتكنولوجيا البلوكتشين تذهبُ إلى أبعدَ من الأصولِ الماليةِ؛ فيُمكنُ تتبعُ وتداولُ أي نوعٍ من الأصولِ الرقميةِ من خلالِ البلوكتشين إضافة إلى ذلك؛ يُمكنُ تخزينُ المعلوماتِ عن مصادرِ السلعِ ووثائقِ التفويضِ والحقوقِ الرقميةِ على نحوٍ آمنِ في دفاترِ حساباتِ الموزعِين، ويُمكنُ القولُ أنَّ التجاربَ في هذا المجالِ تكادُ تكونُ في المراحلِ المُبكرةِ؛ ولكنَّها تَشملُ السجلاتِ الطبيةَ والحقوقَ الرقميةَ والمدفوعاتِ الصغيرةَ وسلاسلِ الدعمِ Supply Chains.
ويتَمثَّلُ التحدي الذي قدْ يُواجهُ العديدَ من هَذهِ التطبيقاتِ في مدى إمكانيةِ تسجيلِ خصائصِ الأصولِ الماديةِ ووثائقِ التفويضِ إضافةً إلى المعلوماتِ الأخرى ذاتِ الصِّلةِ وتوثيقِها؛ إذ تُصبحُ قابليةُ التغيرِ ممكنةً في حالِ كانتِ المعلوماتُ المُدخَلةُ عليها دقيقةً فقط.
وعلى الرَّغم من أنَّ البلوكتشين تسمحُ للمُستخدِمين من التحققِ من هَذهِ الخصائصِ دونَ أيَّةِ تكلفةٍ إضافيةٍ؛ لكنَّ تسجيلَ تلكَ المعلوماتِ في المقامِ الأولِ يتطلبُ جَهدًا كبيرًا من الجميعِ بمن فيهم الحكوماتُ؛ لتتأكدَ من خُلوِّ العملياتِ من أي عمليةِ غشٍّ أو احتيالٍ؛ وبِناءً على ذلك، يُمكنُ القولُ أنَّهُ على المدى الطويلِ سيكونُ من الممكنِ للعُملاتِ المُشفَّرةِ أنْ تغيرَ طريقةَ تقديمِ الخدماتِ عن طريقِ الإنترنت، وإلى إيجادِ حلولٍ تمويليةٍ لتطويرِ البرمجياتِ مفتوحةِ المصدرِ، وإلى تحسينِ طُرقِ الدفع عن طريق الإنترنت إضافةٌ إلى العديدِ من الخدماتِ الأخرى.
عَرَّفَ مايكل جنسن ووليام مكلينغ الشركاتِ بأنَّها "رابطة من العقود" فإنَّ الشركاتِ ليستْ سِوى مجموعةِ عقودٍ بين أطرافٍ متعددةٍ من عُمالٍ وموظفين ومساهمين؛ ولذلك قدْ تُشكِلُ البلوكتشين في يومٍ من الأيامِ نظامًا جديدًا يسمحُ لنا بتبادلِ القيمِ وإتمامِ المعاملاتِ الماليةِ على نحوٍ آمنٍ من خلالِ العقودِ الذكيةِ، إضافة إلى ذلك؛ قد يُحققُ هذا النظامُ سرعةً وكفاءةً تجعلانِه قادرًا على تَكرارِ أشكالٍ معقدةٍ من الحوكمةِ المطلوبةِ ومحاكاتِها لتنفيذِ المهامِّ المعقدةِ التي تحدثُ اليومَ ضِمنَ حدودِ الشركةِ، كما ستُشكِلُ تكنولوجيا البلوكتشين جنبًا إلى جنبٍ معَ التعلمِ الآليِّ مستقبلَ تدفقِ رأسِ المالِ والمواردِ البشريةِ والأفكارِ لعقودٍ قادمةٍ.
المصدر: هنا