كتاب > روايات ومقالات
تيَّارُ الوعي.. من تقنيةِ علاجٍ نفسي إلى أسلوبِ سردٍ أدبي
تيار الوعي Stream of Consciousness أو "التداعي الحر" يعني لغويًّا جريانَ الشعور، وهو في الأساس تقنيةُ علاج نفسي تعتمد على استنباطِ أفكارِ الآخرين اللاواعية التي قد قُمِعت أو تعرّضت للتجاهل. وقد ارتبطت هذه الطريقة بسيغموند فرويد و يقال أنَّه هو من اكتشفها واستخدمها في البداية؛ إذ تُطبَّقُ هذه التقينة من خلال استلقاء المريض في وضع مريح وقولِ الأشياء التي تتبادر إلى الذهن فورًا بعفويةٍ ودونَ إدارةٍ أو قلقٍ أو تغيير، ومهما بدت غيرَ منطقية أو محرجةً أو حتى تافهة، أمَّا المصطلحُ بحدّ ذاته فهو من ابتكار الفيلسوف وعالم النفس الأمريكي وليام جيمس William James؛ إذ ظهرَ أوَّلَ مرةٍ في مقالاته ضمن مجلة Mind المنشورة عام 1884 ثم أُعيد طبعُ تلك المقالات في كتابه "مبادئ علم النفس" وقد استخدم جيمس هذا المصطلح مستعيرًا إياه من انسياب ماء النهر الدائم وتجدُّدهِ المستمر والتي تُشابِه انسياب الأفكار والمشاعر داخل الذهن، وذلك بعد أن فضَّله على مصطلحاتٍ لا تصف الوعي بدقة -حسب رأيه- مثل تقاطُر أو تسلسُل.
William James circa 1890s
وأمَّا في الأدب؛ فإنَّ تيار الوعي هو شكلٌ سردي يَكتبُ فيه المؤلِّفُ بطريقةٍ تُحاكي أو توازي الأفكار الداخلية للشخصية، ويُطلَقُ عليه أحيانًا اسمُ "مونولوج داخلي"، وغالبًا ما ينطوي هذا الأسلوب على فوضى طبيعيةٍ لأفكار الشخصيات ومشاعرها، تمامًا كالتي تحدث في عقولنا. وغالبًا ما تفتقر رواياتُ (تيار الوعي) إلى قفزاتٍ ونقلات مُنظَّمةٍ للأحداث، وتتميز أحيانًا بعدم وجود علاماتِ ترقيمٍ منتظمة؛ أي إنه غالبًا ما يَستخدمُ كُتَّابُ تيار الوعي علاماتِ الترقيم بطرائقَ غيرِ تقليدية؛ باستخدامِ الخط المائل والشَّرطات والفواصل؛ بوصفها إشارةً إلى الإيقاف المؤقت أو إلى التغييرات في تدفق الأفكار الخاصة بالشخصية، و هذا ما يجعل هذا الأسلوب مختلفًا؛ إذ إنّه لا يتَّبعُ القواعدَ العامَّة في النحو واللغة بحرفيتها بل يخرج عنها ويحوّرها، فيستخدم التكرار أو الترتيب غير المنتظم للجمل أو القَطْعَ المفاجئ لها، ومع أنَّها أحياناً تكون غيرَ صحيحة في المقياس اللغوي، لكنها تبدو دقيقة في وصف تدفق مكنونات الشخصية، وكذلك يتميزُ هذا الأسلوب بإهمال الترتيب الزمني للأحداث والاعتماد على الترتيب الشعوري اعتمادًا أساسيًّا، و يعتمد على الرمزية في الطرح أيضًا؛ تاركًا مهمَّة ربط الأحداث وفهمِها لذكاء القارئ وسرعة بديهته.
وقد ظهر مصطلح تيار الوعي أوّلَ مرّةٍ في النقد الأدبي في عام 1918 في إحدى مقالات الناقدة May Sinclair في تعقيبِها على روايات Dorthy Richadson؛ إذ أشارت إلى أسلوب الكاتبة الجديد في وصف شعور شخصيّاتها وتقديم الحالات النفسية لها، وقيل عن هذا الأسلوب أنَّه تعبيرٌ أدبيٌّ عن مذهب الأنانية الذي ينفي وجود أي واقع خارجي ويَعُدُّ الأنا وحدَها هي الموجودة وأنَّ الفكرَ لا يَتركُ سوى تصوُّراتِه.
ونلاحظ أنَّ تيارَ الوعي قد نشأ كنتيجةٍ طبيعيةٍ لارتباط علمِ النفس بالأدب وتداخلهما، وكذلك بسبب الثورات العلمية و الصناعية و التكنولوجية، وذلك ما بين القرنين التاسع عشر و العشرين، فقد كان لتلك الثورات جوانبُ سلبيةٌ جعلت الفرد يشعر بالوحدة والاغتراب وبتلاشي الذات الإنسانية وذوبانها، وهذا حتَّم على الرواية والأدب أن يتأقلما مع المعطيات الجديدة ويخرجَا عن القالب التقليدي والجماليات المألوفة، وبهذا فقد انتقلت الروايةُ من الوصفِ السلوكي الظاهري إلى الرواية النفسية التي تُعنَى بالتجربة الشخصية للفرد.
وإذا ما تطرّقنا إلى أهمّ مُتبنِّي هذا الأسلوب في الأدبَين الأوروبي والأمريكي فإنّنا نذكرُ منهم الإنكليزيةَ فيرجينيا وولف، والكاتبَ الفرنسيَّ مارسيل بروست، والكاتبَ الأيرلنديَّ جيمس جويس، والكاتبَ الإيطاليَّ إيتالو سفيفو والكاتبَ المكسيكيَّ روبرتو بولانو، والروائيَّ الأمريكيَّ المعاصر ديف إيجيرز، وقد استُخدم هذا الأسلوب في السينما أيضًا؛ في الأعمال المأخوذة عن رواياتٍ مكتوبةٍ بهذا الأسلوب.
مثال من رواية (السيدة دالاواي) لِفرجينيا وولف:
"وإذ وضعت دبّوس الزينة على المنضدة فقد اعترتها عصرة مفاجئة، كأنَّ المخالب الثلجية قد انتهزت الفرصة، إبّان تأمٌلها، فأنشبت فيها. إنها ليست مُسنّة. لقد دخلت توّاً عامها الثاني والخمسين. إن شهوراً و شهوراً من العمر لمَّا تزل دون مساس. حزيران، تموز، آب ! كل شهر باق بأسره أو يكاد، ثم وكأن القطرة الساقطة تُلتَقَط .. غاصت كلاريسا في قلب اللحظة ذاته، هناك- لحظة هذا الصباح من حزيران، وهي ترى المرآة، طاولة الزينة، وكل قناني التجميل من جديد، فتجمع كل كيانها بنقطة واحدة (إذ نظرت في المرآة)، مبصرةً الوجه الوردي الرهيف للمرأة التي ستقيم حفلة في تلك الليلة نفسها. وجه كلاريسا دالاواي، وجهها هي نفسها."
أما عن تيار الوعي في الأدب العربي فيرجِعُ استعماله إلى القرن التاسع عشر متأثراً بالأدب الأوروبي، وأهم روّاده ناصف اليازجي، وحافظ إبراهيم، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وصنع الله ابراهيم وغيرهم كثرٌ، إذ استحدثوا أشكالًا جديدة في الرواية العربية باستخدامِ أسلوب تيار الوعي.
مثال من رواية (التلصُّص) لصنع الله ابراهيم:
"أسعُل مرة أخرى. أرتعش. تصطك أسناني. أغمض عينيّ. الملائكة يحيطون بي. أمّي تحملني. النور يأتي من الصالة. يلف في دوائر"
المصادر:
1. خليل، سليمة: تيار الوعي، الإرهاصات الأولى للرواية الجديدة، مجلة المخبر: أبحاث في اللغة و الأدب الجزائري – جامعة محمد خيضر، الجزائر.
2. آرمن، سيد ابراهيم ،وپاك نهاد، زهرا: تيّار الوعي في "التلصّص" لصنع الله ابراهيم، فصلية دراسات الأدب المعاصر، التراث الأدبى، العدد الثامن.
3. وولف، فيرجينيا: السيدة دالاواي، ترجمة: عطا عبد الوهاب، دار المدى: بيروت 2007، ص 36- 37.
4. هنا
5. هنا
6. هنا