العمارة والتشييد > التشييد
جسرُ موراندي...كارثةٌ لم تكن بالحسبان
لم يكن يومُ 14 آب عاديًّا لمدينةِ جنوى وربَّما لإيطاليا برمّتها، فقد لقيَ قرابة 39 شخصًا حتفهم في انهيارِ ما لا يقلّ عن 200 متر من جسرِ موراندي الذي يقعُ على الطَّريق السَّريع A10 الواصل بين الريفيرا الإيطاليَّة والسَّاحل الجنوبيّ لفرنسا. ويُعَدُّ الجسرُ الذي بُنيَ عام 1967 من القرنِ الماضي شريانًا أساسيًّا في إيطاليا، لمساهمتهِ في حركةِ عشرات بل ربَّما مئات الآلاف من النَّاس الذين يتنقَّلون عبره في أوقاتِ العُطلة، كما أنَّه يربطُ بين ثلاثةِ موانئ أساسيَّة تُمدُّ إيطاليا بالسلع الهامَّة.
وعلى الرُّغم من أنَّ سببَ الانهيار المباشر لا يزالُ مجهولًا حتَّى الآن، لكنَّ هذا الانهيار قد فتحَ البابَ واسعًا أمامَ مراجعةِ كلِّ ما يتعلَّقُ بالبنيةِ التحتيَّة الإيطاليَّة، ومن ضمنها سجلَّات صيانة الجسر على مرِّ العقودِ السَّابقة ومدى مراعاتِها للشروطِ الإنشائيَّة وقواعد الأمان والسَّلامة، إذ حذَّرَ تقريرُ شركةِ Autostade per l’Italia المشغِّلة للطُّرق السَّريعة في إيطاليا الصَّادر عام 2011 من وجودِ أضرار إنشائيَّة كبيرة في هيكل الجسر، وأكدَّ مجلسُ مدينةِ جنوى ذلك في جلسةِ استماعهم عام 2012، إذ جرى الحديثُ عن إمكانيَّةِ انهيارِ الجسر في غضون عشر سنوات. ومن سخرية القدر أنَّ أعمالَ الصِّيانة كانت مستمرَّةً مساء اليوم السَّابق لحدوثِ الانهيار وخصوصاً في الجزء الذي تعرَّض للانهيار، حسب إفادة أحد الَّذين كانوا قربَ المكان، ممَّا أثار العديد من النِّقاشات حولَ مدى استدامةِ الجسر ومتانته ضدَّ الانهيار، فإيطاليا منَ البلدان الرَّائدة المصدِّرة لأحدثِ التقنيَّات الهندسيَّة.
وقد عزا أحدُ الاختصاصيِّين انهيارَ الجسرِ المفاجئ والسَّريع –المبنيّ من الخرسانة المسلَّحة مسبقة الإجهاد على عكس تصميم الجسور الحديثة المعتمدة على الحديد الصلب لتأمين المتانة– إلى عمليَّات الإصلاح والاستبدال الدَّورية للجسر منذ التسعينات وحتَّى وقت الانهيار، ويؤدي وجود الأوتار البيتونيَّة المتضرِّرة والتي تربطُ عناصرَ الجسر ببعضِها تحتَ طبقاتِ الخرسانة إلى صعوبة الاهتداء إلى مكمن الخلل، كما أنّ عمليَّات الصِّيانة المتكرِّرة للجسر جعلت تكلفة صيانتهِ تتجاوزُ تكلفةَ هدمهِ وإعادةِ بنائه من جديد، ويتقاطعُ هذا التَّفسير مع رأي الخبير دانييل زونتا –الأستاذ في قسم الهندسة المدنيَّة والبيئيَّة في جامعة Strathclyde- الذي يرى أنَّ الجسرَ الذي بناه المهندسُ ريكاردو موراندي كان مواكبًا في تصميمِه للمنشآت المعتمدة على الخرسانة مسبقة الإجهاد ذائعة الصِّيت في ذلك الوقت والتي اشتهرَ بها موراندي في تصميماته، إذ دُعِّمت مجازاته الطويلة بأوتارٍ بيتونيَّة مسبقة الإجهاد بدلاً من الكابلات الفولاذيَّة الشَّائعة في مثل هذه الجسور، إضافةً إلى وجود أربعة أوتارٍ فقط عندَ نقطةِ الاستناد بين مجازين مقارنةً بـعشرةِ أضعاف هذا الرقم في الجسور المماثلة، وكانت وهذه الأوتار موضعًا للقلق الدّائم ممَّا استلزم إجراء معاينات وصيانة دوريَّة للجسر منذ بنائه.
ورأى الدُّكتور مارتن فولوكراج –القارئ في قسم الهندسة الإلكترونيَّة والكهربائيَّة في جامعة Bath- أنّ قوَّةَ البرق عاملٌ أساسيّ في انهيارِ الجسر، فقد حدثَ انهياره أثناءَ عاصفةٍ شديدة، إذ ضربت صاعقةٌ الجسر وتسبَّبت بانهياره، معتمدًا في ذلك على العديد من التَّقارير التي تتحدَّثُ عن هذه القوَّة وآثارها غير المباشرة المحدودة والمباشرة الجسيمة التي قد تطالُ البشر والحجر والشَّجر، ويعزو رأيه هذا إلى أنَّ الصَّاعقة يمكنُ أن تسبِّبَ إجهادًا شديدًا لمادَّةِ البناء يحاكي -على سبيل المثال- الأثرَ الذي تسبِّبه الحرارة النَّاتجة عن البرق في تبخُّر الماء، وتتسبَّبُ بإضعافِ المادَّة وتشكِّل تشقُّقاتٍ فيها كأثرِ البرق في تناثرِ لحاء الأشجار وربَّما انفلاقِها بالكامل.
أمّا الدُّكتور مهدي كاشاني –الأستاذ المساعد في ميكانيك الإنشاءات في جامعة Southampton- فقد ركَّزَ على دورِ الحمولةِ الدِّيناميكيَّة المستمرَّة المطبَّقة على الجسر -نتيجةَ حركةِ المرورِ الثَّقيلة والدَّائمة وتأثير الرِّياح والزَّلازل، عدا عن الحمولة النَّاجمة عن أعمالِ الصِّيانة المستمرَّة فوق الجسر- في إلحاقِ الضَّرر بعناصرِ الجسر والوصول بها إلى درجة الانهيار أثناء العاصفة المطريَّة الشَّديدة التي زامنت انهيار الجسر.
كما يشكِّلُ عدم أخذ الظُّروف الجويَّة القاسية وغير المتوقعة أحد عوامل وقوع الكارثة حسب الدكتور ديمتريوس كوتسوفوس –الأستاذ المساعد في معهد البنية التَّحتيَّة والبيئة في جامعة Heriot-Watt - الذي تحدّث عن أهميَّةِ عوامل البيئة والطّقس وتغيُّرها زمنيًّا في سياقِ التغيُّر المناخيّ في تصميمِ المنشآت وخاصَّةً تلك التي ستعمِّرُ طويلًا.
ومعَ كلِّ تحليلاتِ الخبراء الذين سبق ذكرهم لا يوجد شيء مؤكَّد حتَّى اللحظة، ولا تزالُ التحرِّيات والاستقصاءات قائمةً في سبيلِ التوصُّل إلى السَّبب المباشر لانهيار الجسر، ولكن بالنَّظر إلى هول الكارثة لا بُدَّ أن نركِّزَ على الدُّروس المستفادة المتعلِّقة بضمان أمانِ وسلامةِ البنية التحتيَّة ذات عمر الاستثمار الطَّويل كجسر موراندي الخمسيني، وأخذ جميع العوامل بالحسبان والاهتمام من مرحلة الدِّراسات إلى التَّنفيذ وحتَّى الاستثمار، وقد يكونُ من الأجدى وضعُ تعليماتٍ ناظمةٍ لأمانِ هذا النَّوع من المنشآت.
المصادر: