الرياضيات > الرياضيات
هل يمكنك تخمين العدد الأكبر؟
يُروى في دعابةٍ قَديمةٍ أنّ اِثنينِ منَ النّبلاءِ تَنافسَا في العثور على العدد الأَكبرِ، وبعد تفكيرٍ دام لساعاتٍ أجابَ الأَوّلُ وقد غمره شعورٌ عارمٌ بالنّصر قائلًا: ثَلاثةٌ وثَمانون، فَردَّ عليه الآخرُ بتأثُّرٍ ملحوظٍ قائلًا: أعلن خسارتي.
من الواضح تفاهةُ هذه المسابقة إذا ما تناوب المُتسابقونَ في الإجابة علنًا، فأيًّا كان العدد الّذي قد أجيبُ به، ستستطيع أن تأتيَ بعددٍ أكبرَ منه. لكن ماذا لو كتبَ كلٌّ من المتسابقين عددَه دون الاطّلاع على تخمينات الآخرين؟ عندما ألقي عادةً محاضراتٍ عن مسألةِ العددِ الأكبرِ، أدعو متطوّعَينِ اثنينِ من الحضور وأخبرهما بقواعد المسابقة:
لدَيكُما خَمسةَ عشَرَ ثانيةً تمامًا لكتابةِ عددٍ غيرِ اللّانهاية على ورقةٍ سوداءَ باستخدامِ التّرميزات الرّياضيّة المُعتمَدة، أو الكلماتِ الإنكليزيّةِ، أَو كليهما معًا. نرجو من كلٍّ منكما أن يكون دقيقًا في كتابته بحيثُ يستطيع أيُّ رياضيٍّ معاصرٍ عقلانيٍّ تحديدَ عدديكما إمّا بمجرّد الاطّلاع على كتابتكما أو حتّى بالرّجوع إلى أوراقٍ رياضيّةٍ سبق نشرُها إذا تطلّب الأمر. وذلك يعني أنْ ليس من المسموح استخدامُ تعابيرَ مثلِ عددِ الرّمالِ في الصّحراءِ، أو العددِ الأكبرِ من عددِ خصمي بواحدٍ، أو أكبرِ عددٍ خطر على بالِ إنسانٍ مضافًا إليه واحدٌ، إذ لا يحدِّد أيٌّ من هذه التّعابيرِ العددَ بالمستوى المطلوب من الدّقّة. وهكذا فَالمتسابقُ الّذي يَكتبُ العددَ الأَكبرَ ضِمنَ هَذهِ القَواعدِ هو الفَائزُ.
دائمًا ما يخيب أملي بالنّتائج، فمثلًا في إحدى المرّات، سعى صَبيٌّ في الصّفّ السّابعِ إلى تكبير عدده بملءِ وَرقته بسلسلةٍ متعاقبةٍ من الرّقم تسعةٍ غَيرَ مدركٍ أَنّه لو اختارَ الرّقمَ واحدًا لاستهلك مساحةً أقلّ من المساحة الّتي تستهلكها انحناءة التّسعة، ولاستطاع بالتّالي أن يكتب عددًا أكبرَ من الخانات، ولكانَ عددهُ بذلك أَكبرَ بِملايينِ المرّاتِ. ولكنّه كَان ليخسرَ على أيّ حالٍ أَمامَ مُنافستهِ الّتي كَتبت سلسلةً من العدد تسعةٍ ملحوقةً بالأُسِّ 999، أَي إنّ العدد ضُربَ بنفسه 999 مرّةً، وبِملاحظةِ ذلك أعلنتُ فوزَ الفتاةِ دونَ أَن أُكلّفَ نفسي عَناءَ عَدّ التّسعاتِ في الورقتين.
ومع ذلك كانَ عدد الفتاة ليكونَ أَكبرَ بكثيرٍ لو أَنّها أَضافت مزيدًا من القُوى إلى العدد. لنأخذْ مثلًا العدد
تُعدّ الأعداد غيرُ الأسّيّةِ، والأعدادُ الأسّيّةُ، والقوى المكدّسةُ متكافئةً من ناحية قدرتها على التّعبير عن قيمٍ كبيرةٍ على نحوٍ غيرِ منتهٍ، ولكن تَختلفُ هذه التّرميزات اختلافًا جذريًّا من ناحية الإيجاز في التّعبير عن تلك القيم. هذا ما تُبرزه قَاعدةُ الخمسةَ عشرَ ثانيةً، فبالرّغم من أنّ كتابةَ كلٍّ من الأعدادِ 9999، و9999، و
إنّ هذهِ النماذجَ نَادرةٌ تاريخيًّا، إذ لوحظت كثرةُ استخدامها في العصورِ القديمةِ، وكذلك في القرنِ العشرين، ولكن لم تُشاهد بين هاتين الفترتين. ولطالما كان ظُهورُ طرائقَ جديدةٍ للتّعبيرِ بإيجازٍ عن الأعداد الكبيرةِ نتيجةً لثوراتٍ علميّةٍ كبرى، كالرّياضيّاتِ المنهجيّةِ، والمنطقِ الصّوريّ، وعلومِ الحاسوبِ. ولا تقوم هذه الثّورات إلّا تَحتَ الظّروفِ الاجتماعيّةِ المناسبة حَسَبَ فلسفةِ كوهين، وبهذا فإنَ قصّةَ الأعداد الكبيرةِ هي قِصّةُ التطوّرِ البشريّ.
يناقش Petr Beckmann بيتر بيكمان في كتابه A History of Pi أَنّ نسبةَ محيطِ الدّائرة إلى قطرِها مِرآةٌ صغيرةٌ قديمةٌ لتاريخِ البشريّةِ، إذ حقّق الرّياضيّونَ تقدّمًا كبيرًا في حسابِ قيمةِ π في المجتمعات القليلة الّتي لقي فيها العلم اهتمامًا كأثينا القديمة فترةَ أناكساڠوراس وهيبياس، والإسكندريّةِ المشهورةِ بإراتوستينس وإقليدس، وإنكلترا القرنِ السّابعَ عشرَ حيث عاش نيوتن ووالِس. وكانت رُوما خلال العصور الوسطى على النَّقيضِ من ذلك، إذ كَانتْ المَعرفةُ بـπ راكدةً، وبناءً عليه كان يُكتَفَى بتقريبات البابليّينَ البسيطةِ والمتأرجحة حول القيمة (25/8).
يخضع التّطوّر في مجال التّعبير عن الأعداد الكبيرة للنّموذج ذاته على ما أعتقد. فَالفضولُ والانفتاح يؤدّيان إلى الافتتان بالأعداد الكبيرةِ وإلى معرفةِ ألّا مقدارَ أضخمُ من أن يستوعبه العقل البشريّ، سواءٌ كانَ عددَ النّجومِ في المجرّةِ أو عددَ التّشكيلاتِ الممكنةِ في لعبةِ جسور اليد Hand Bridges. وبالمقابل فإِنّ الجَهلَ واللّاعقلانيّةَ يُؤدّيّانِ إلى الانهزام عند التّفكير بموضوع الأعداد الكبيرةِ. ذكر المُؤرِّخ Ilan Vardi إيلان ڤاردي تعبيرَ اليونانيّين القدماءِ "رملًا من مئات" والّذي يعني بالتّعبير الشّعبي الزّليونَ أي عددًا لا يُحصى، وذكر أيضًا مقطعًا من القصيدة الغنائيّة الأولمبيّة الثّانية لبينادر Pindar ينصّ على أنّ الرّمل لا يُحصى.
لكنْ هل الرّمل فعلًا لا يُحصى؟ أم أنّ لأرخميدسَ وجهةُ نظرٍ مختلفةٌ في هذا الشّأن؟ هذا ما ستعرفونه في الجزء الثّاني من المقال فترقّبونا.
المصدار :
1- هنا