لاحظ أَرخميدسُ في القرنِ الثّالثِ قبلَ الميلادِ أنّ حتّى الرّملَ لا يستطيع الفرار من قبضة العدّ. وقد وجّهَ إلى ملك سَرَقُوسَة مقالهُ العلميَّ الشّعبيَّ حاسبَ الرّمل The Sand-Reckoner مفتتحًا: "هُنالكَ منْ سَيعتقدُ بِأنّ مقدار الرّمالِ غيرُ منتهٍ، وبالمقابل هناكَ أيضًا مَن يعتقد بأنّه منتهٍ ويمكن إحصاؤه ولكن لم يُسمّى إلى الآن عددٌ كبيرٌ بما فيه الكفاية ليعبّر عنه. ولكن سأحاول أن أُريَكم أَعدادًا لا تتجاوز مقدارَ حبّاتِ كتلةِ رملٍ بحجم الأرض فحَسْبُ بل مقدارَ حبّات كتلةِ رملٍ بحجم الكون أيضًا". وحقّق أَرخميدسُ ذلكَ باستخدامِه كَأساسٍ للقِوى التّعبيرَ اليونانيّ القديم Myriad الّذي يعني عشْرةَ آلافٍ. واستطاع أرخميدسُ التّوصّل إلى حدٍّ أعلى بَلغَ
لعددِ حبّاتِ الرملِ المطلوب لملء الكونِ بالاستناد إلى فرضيّةٍ كوزمولوجيّةٍ أي كَونيّةٍ افترض فيها أريستارشوس Aristarchus أنّ كرة النّجومِ الثابتةِ -يقصد الكون المرئيّ- أكبرُ بكثيرٍ من الكرة التي تَدورُ فيها الأرضُ حول الشّمس.
منَ المفترضِ أنّ
أكبرُعددٍ بِمُسمَّىً هجائيٍّ قياسيٍّ أمريكيٍّ: الفجنتليون Vigintillion، لكن ربّما على الفجنتليونِ هذا أن يبقَ حذرًا خشيةَ أن يتجاوزَه ذلك ذو الاسم الغريب الڠوڠول googol الّذي يساوي قيمةً
، أو يتجاوزَه الڠوڠولبلكس googolplex الّذي يساوي قيمةً
.
وبالعودة إلى أرخميدس وعدده، فبالتّأكيد لم يتربّع
على عرشِ العددِ الأَكبرِ للأبدِ. فَبعدَ ستّةِ قرونٍ ابتكر ديوفانتس Diophantus ترميزًا أسهلَ للتّعبيرِ الأسّيِ مكّنه من تَجاوز العددِ
. وبَعدَ ظهورِ الأَرقامِ العربيّةِ ومراتبِ الأعدادِ في العصور الوسطى، أَصبحَ التّعبيرُ عن الأعدادِ الأسّيّةِ الأًكبرِ أسهلَ. وبالرّغمِ من ذلكَ لم يُتجاوَز نموذجُ أَرخميدسَ في التّعبيرِ عَن الأعدادِ الكبيرةِ حتّى القرنِ العشرين. و إلى يومنا هذا لا تزال الأسس مهيمنةً على النّقاشات العامّة حول هذه الأعداد.
ولنأخذ أُسطورةَ الوزيرِ الفارسيّ الأكبرِ الّذي اخترعَ لعبةَ الشّطرنجِ مثالًا لضخامة الأعداد الّتي يمكننا التّعبير عنها باستخدام الأسس، فوفقًا للأسطورةِ كانَ الملكُ مسرورًا بالّلعبةِ الجديدةِ، واستدعى الوزيرَ ليختارَ مُكافأتهُ، فَأجابهُ الوزيرُ كونَه متواضعًا بأَنّهُ يريدُ حبّةَ قمحٍ واحدةً عن أَوّلِ مربّعٍ في رقعةِ الشّطرنج، وحبّتين عن المربّع الثّاني، وأربعًا عن الثّالث، وهكذا بحيث ينال عن كلّ مربّعٍ ضعفي ما نال عن سابقه من القمح. وافقَ الملكُ دونَ أَن يُدركَ أنّ عددَ حبّاتِ القمحِ الكُلّيَّ النّاتجَ عن عمليّة المضاعفة المتكرّرةِ عددَ مربّعاتِ الرّقعة الأربعة والسّتّين سيكون
ما يساوي 18.6 كوينتليون حبّة قمحٍ، أي ما يعادلُ نتاجَ القمحِ العالميَّ الحاليَّ لمدّة 150 سنةً.
هذا التّزايد الأُسّيُّ ما يَجعلُ لعبةَ الشّطرنجِ بصعوبتِها المعهودة. فُهناكَ 35 خَيارًا لتحريك كلِّ حَجرِ شِطرنجٍ وتتضاعفُ هذهِ الخياراتُ أسّيًّا لتصلَ التّشكيلات الّتي يمكن أن تتوضّع بها الأحجار على الرّقعة إلى
ما يُعدّ عددًا كبيرًا حتّى بالنّسبةِ للكمبيوترِ ليحصرهُ، ولهذا فقد استغرقَ الحاسوب Deep Blue حتّى عامِ 1997 ليستطيعَ هزيمةَ بطلِ العالمِ في الشّطرنج.
وفي لعبةِ ڠو Go الّتي تُلعبُ على رقعةٍ بأبعادِ 19×19 يوجد أَكثرُ من
تشكيلةٍ يمكن للأحجار أن تتوضّع بها على الرّقعة، وبذلك فإِنّ الإنسانَ المبتدئ يَستطيعُ هَزيمةَ برامجِ الحاسوب الأولى في هذه اللعبةِ، فهذا التّزايد الأسّيّ يشلُّ الحواسيب بشكلٍ أو بآخرٍ. تُناقشُ مسألةُ البائعِ المتجوّلِ الطّرق الّتي تَربطُ بين مجموعةٍ من المدنِ، وتبحثُ عن أقصرها. والعائق أَنّ عددَ الطّرقِ بينَ المدنِ يزداد بشكلٍ أسّيٍّ بازدياد عددِ المدنِ. فعندما تناقش المسألةُ مئةَ مدينةٍ مثلًا، سَيكونُ هُناكَ قرابةَ
طريقٍ ممكنةٍ، وبالرّغمِ من وجودِ عدّةِ اختصاراتٍ محتمَلةٍ، فلا خوارزميّةَ حاسوبيّةً معروفةً أفضلُ من اختبار الطّرقِ طريقًا طريقًا. تُعدّ مسألةُ البائعِ المتجوّل إحدى مئاتِ المسائل كثيرة الحدود غير القطعية الكاملة NP-complete problems. ومنَ المعروفِ أنّهُ إن وُجدت خوارزميّةٌ فعّالةٌ لحلّ أيٍّ من هذه المسائل، فلا بدّ من وجود خوارزميّاتٍ فعّالةٍ لحلّها جميعًا. وتَعني الفعاليّةُ هنا استهلاكَ مقدارٍ من الوقت منسجمٍ مع حجمِ المشكلة مرفوعةً لأسٍّ ثابتٍ على الأكثر أي مُكعّبِ عددِ المدنِ على سبيل المثال. ولكن سبق أن وُضعت فرضيّةٌ تنصّ على عدم وجود أيّ خوارزميّةٍ فعّالةٍ لهذه الفئة من المسائل، ولا يزال إثبات هذه الفرضيّة المدعوّةِ P ≠NP أو نقضُها مسألةً عالقةً منذ ثلاثين عامًا.
بالرّغم من أنّه من المحتمل أَنّ الحواسيبَ لنْ تستطيع أبدًا حلّ المسائل كثيرة الحدود غير القطعية الكاملة بفعاليّةٍ، ما تزال في جعبة علم الحاسوب أداةٌ قد نستطيع باستخدامها حلَّ هذه المسائل، ألا وهي تقليدُ الذّكاء البشريّ. يَحتوي الدّماغُ البشريّ على مئةِ بليون خليّةٍ عصبيّةٍ تقريبًا، ترتبط ببعضها بمئة تريليونِ مِشبَكٍ عصبيٍّ، ورغمَ أَنّ وظيفةَ الخليّة العصبيّةِ الواحدةِ غيرُ مفهومةٍ كلّيًّا، يُعتقدُ بأَنّ كُلّ خليّةٍ تُطلِق نبضاتٍ كهربائيّةً وفقًا لقواعدَ بسيطةٍ بتواترٍ يبلغ الألفَ مرّةٍ في الثّانيةِ الواحدةِ. لذلكَ لنا أن نعدَّ الدّماغَ حاسوبًا كثيرَ التّرابطات الدّاخليّةِ قادرًا على إجراء حوالي
عمليّةٍ في الثّانيةِ؛ بينما يُجري جهاز 9200-بنتيوم برو تيرافلوب الموجود في مختبرات سانديا العالميّة
عمليةٍ في الثّانيةِ علمًا أنّه الحاسوب العملاق المتوازي الأَسرع في العالم. وخلافًا للاعتقادِ السّائدِ، فإنّ المادّةَ الرّماديّةَ ليست مُهيّأةً للذّكاءِ فحسبُ، بل إنّها تتفوّق على السّيليكون حتّى من ناحية القدرة الحسابيّة، و لكن من غيرِ المرجَّحِ أن تَبقى كذلك لفترةٍ طويلةٍ، فبحسَبِ قانونِ مور Moore’s Law الّذي صيْغَ عامَ 1990 تَتنامى كَمّيّةُ المعلوماتِ الّتي تستوعبها رقاقةُ السّيليكونِ الواحدةُ أسّيًّا، إذ تتضاعفُ مرّةً كلّ سنتينِ تقريبًا، رغمَ ذلك سَيُستبعدُ قانون مور في نهايةِ المطافِ عندما تَصل مُكوّناتُ الرّقاقةِ المايكرويّةِ إلى المستوى الذّري وتعجز طباعةُ الرّقاقاتِ التقليديةُ عن إنتاجها. لكن سَتحلّ محلَّ السّيليكونِ تِقنياتٌ ثوريّةٌ جديدةٌ مثلُ الحواسيبِ الضّوئيّة، وحواسيبِ الـDNA، وحتّى الحواسيبِ الكموميّةِ. لا يمكنُ أَن يستمرّ نموّ القدرة الحاسوبيّة الأسّيُّ إلى الأَبد، ولكنّهُ قَد يستمرّ لمدّةٍ زمنيّةٍ كافيةٍ لكي تتفوّق الحواسيبُ على الأدمغة البشريّة على الأقلِّ من ناحية قدرة المعالجة.
بالنسبة للمتحمّسين للذّكاءِ الصّنعي، ليس النّموّ الأسّيّ إلّا بشرىً سارّةً، لكن للتّوابع الأسّيّة جانبٌ مُظلمٌ بعض الشّيء. فقد تَجاوزَ التّعدادُ السّكّانيّ العالميّ السّتّةَ بلايين نسمةٍ ويتضاعفُ كلّ أَربعينَ سنةً. وبمُعدّلِ النموِّ الأُسّيِّ هذا، سَتكونُ الأَرضُ كُلُّها مغطّاةً باللّحمِ البشريّ بحلول عام 3750، إذا فرضنا أنّ متوسّط وزنِ الفرد البشريّ سبعونَ كيلوغرامًا فقط. ولكنّ هذا التّعداد السّكّاني سيتَوقّفُ عن النّموِّ قبلَ ذلكَ بِمدّةٍ طويلةٍ، سواءٌ بسببِ المجاعات، أو الأَوبئة والطّواعين، أو الاحتباسِ الحراريّ، أَو انقراضٍ جماعيٍّ، أو استحالةِ الهواءِ غيرَ قابلٍ للتّنفّس، أو حتّى تحديدِ النّسلِ. ومن هنا يصبح من السّهل فهمُ مقولةِ الفيزيائيّ ألبرت بارتليت Albert Bartlett: "أَجسمُ قصورات الجنسِ البشريِّ عَدمُ قُدرتِنا على إدراكِ التّابعِ الأسّيِّ"، ونصيحةِ كارل ساڠان في كتابهِ "بلايين وبلاييين" Billions & Billions: "لا تقلّلوا منْ شأَنِ التّابعِ الأسّيّ". قدّم ساڠان في كتابه ذاتِه عواقبَ مريرةً أخرى للنّموّ الأسّيّ، فمثلًا بِمعدّلِ تَضخّمٍ سنويٍّ قَدرهُ 5%، سَتعادل قيمةُ الدّولارِ الواحدِ بعد عشرينَ سنةً قيمةَ 37 سنتًا فقط في يومنا هذا. وإن أطلقت نواةُ ذرّةِ يورانيوم نيوترونين، وصدم كلٌّ منهما نواة ذرّة يورانيوم أُخرى مسبّبًا إطلاقها نيترونينِ آخرين، وهكذا دواليك... فبإمكاننا إضافة محرقةٍ نوويّةٍ إلى سلسلة نهايات النّموّ السّكّانيّ المحتملة.
المصدر:
هنا