التعليم واللغات > اللغويات
كيف تختفي اللغات؟
تموت اللغةُ بموت آخر شخص يتحدث بها. في دراسة نشرت عام 1999 أحصى معهد Summer Institute of Linguistics التابع لجامعة داكوتا ما يقارب 51 لغة، 28 لغة منها في قارة أستراليا، يتحدث بها شخصٌ واحد فقط، كما أحصى المعهد ما يقارب 500 لغةٍ يتحدث بها أقلُّ من مئة شخص، كما يتحدث أقلُّ من 1000 شخص 1500 لغةٍ أخرى. أكثرُ من 3000 لغة تملك أقلَّ من 10000 متحدث، في حين تمتلك 5000 لغة أقل من 100000 متحدث. هذا يعني أن 4% فقط من سكان العالم يتحدثون ما يقارب 96% من اللغات الموجودة على سطح الكرة الأرضية، ولا تدعو هذه الأرقام إلى الاستغراب خاصةً أن عددًا كبيرًا من هذه اللغات مهدد بالانقراض.
ولكن، لِمَ تنقرض اللغات؟ يعود هذا الأمر إلى العديد من الأسباب، كالكوارث الطبيعية، أو الإبادات الجماعية، أو عندما تمر اللغة بأشكال متعددة من الاندماج الثقافي، ولكن المشكلة الأكبر تكمن في التحركات الاستعمارية الكبيرة التي حصلت على مدى خمسمئة عام الماضيين، إذ فرض الاستعمارُ لغاتٍ هيمنت على الدول المُحتلَّة هيمنةً كبيرة؛ ففي أمريكا الشمالية وأستراليا، طغت اللغة الإنكليزية على لغات السكان الأصليين، بينما هيمنت كلٌّ من اللغة الإسبانية والبرتغالية على أمريكا الجنوبية، وعلى المدى البعيد، يهدد توحيدُ اللغات النوعَ البشري وتميُّزَه.
عندما يبدأ البلدُ المستعمِر بفرض ثقافته وحضارته، تمرُّ اللغاتُ الأصلية التي تصبح مهددة بالانقراض بثلاث مراحل. ففي البداية، يتعرض متحدثو اللغة الأصلية لضغط شديد –سواء أكان ضغطًا سياسيًا أم اجتماعيًا أم اقتصاديًا- للتحدث باللغة السائدة الجديدة، ويمكن أن تأتي هذه الظاهرة من السلطات العليا على شكل توصيات أو قوانين، أو من خلال حوافزَ أخرى، كما يمكن أن تبدأ من العامّة، أي عن طريق ضغطٍ من المجموعة نفسها؛ إذ قد يُعزى السبب في هذا إلى حاجاتها الاقتصادية. أما في المرحلة الثانية، فتنشأ فترةٌ ثنائية اللغة يتقِن فيها السكانُ اللغة الجديدة شيئًا فشيئًا، في حين ما تزال اللغة الأصلية موجودة، ومع مرور الوقت تبدأ المرحلةُ ثنائية اللغة بالتلاشي تدريجيًا، وتُفسِح اللغةُ القديمة في المجال للُّغة الجديدة. وهنا تأتي المرحلة الثالثة التي يتعرف فيها الجيلُ اليافع من السكان على اللغة الجديدة أكثر فأكثر، وتتضاءل أهمية اللغة القديمة لديهم، أما الأُسر التي تستمر باستعمال اللغة القديمة فتجد أن مجال استعمال هذه اللغة قد تضَيَّق، كما تعاني انخفاضَ عدد المتحدثين الآخرين باللغة القديمة.
وهنا يتبادر إلى ذهننا السؤال الأهم: هل اللغةُ التي يتحدث بها 100000 شخص مهددةٌ بالانقراض؟ لا، لن تنقرض في القريب العاجل، ولكن للأسف لا توجد ضمانات لنجاتها بعد جيلين؛ إذ يعود الأمرُ إلى الضغوط التي تتعرض لها اللغة، وعلى وجه الخصوص من اللغة الأخرى المهيمنة، كما يعود الأمر إلى تعلق أبناء اللغة بها. فعلى سبيل المثال، لغة Breton في جنوب فرنسا هي أكبر مثال للُغةٍ فقدت عددًا كبيرًا من متحدثيها، ففي بداية القرن العشرين، تحدث بها ما يفوق المليون شخص، أما الآن فقد انخفض عدد المتحدثين انخفاضًا كبيرًا. من الممكن أن تنقرض هذه اللغة بعد 50 عامًا إن لم نتصرف، فعندما تفقدُ اللغة آخرَ متحدثيها يصبح من الصعب إعادة إحيائها.
إذًا ما العمل؟ مع الأسف، في العديد من الحالات، يكون قد فات الأوان للتصرف، وذلك عندما يكون عدد متحدثي اللغة قليلًا، أو تكون أعمارهم كبيرة، أو قد يكون المجتمع المتحدّث باللغة مشغولًا بمحاولة النجاة والاستمرار. ولكن، ولحسن الحظ، فإن العديد من اللغات المهددة بالانقراض لم تبلغ هذه المرحلة بعد، ويمكننا أن نُعيد تنشيطَها وإحياءها؛ إذ توجد العديد من الأمثلة في كلٍّ من أستراليا وأمريكا الشمالية وأوربا، وليتحقق هذا يجب أن تتضافر العديد من العوامل، أولُها رغبةُ المجتمع نفسه بإنقاذ لغته، كما يجب على الثقافة الجديدة أن تتسع للُّغاتِ الإقليميةَ الموجودة وتحترمها، وبالتأكيد يجب أن يتوافر التمويلُ الملائم للمدرسين والدروس والمواد التعليمية جميعها.
المصدر: