الفيزياء والفلك > فيزياء
هل وصلت نظريّة الأوتار إلى طريق مسدودة؟ أم أنّها لا تزال واعدة؟
من منّا لم يُعجَب بنظريّة الأوتار ويجدها ساحرةً عند التّبحر بها؟
تحاصرنا مشكلتها العويصة - للأسف - بوجود عددٍ هائلٍ من الأكوان؛ إذ يصلُ عدد نماذجُ الزّمكان المُتوقّع بناءً عليها إلى ما يقارب 10^500 نموذج؛ مع الأخذ بالحُسبان أنّ كلّ نموذج سيُحكمُ بقوانينه الفيزيائيّة الخاصّة به. لذا فالسّؤال الكبير هو: كيف تُفسّر نظريّة الأوتارِ امتلاك كونِنا تحديدًا لخصائصه الّتي نعرفها؟
يقترحُ النّظريّون أنّ أغلب الأكوان المُقترحة - إن لم يكن جميعها - تُعدّ محظورةً، أقلّها إذا أردنا لها امتلاك طاقةٍ مظلمةٍ مستقرّة؛ وهي المسؤولة عن تسارع تمدّد الكون. وكان لبعضهم وجهة نظرٍ تقتضي أنّ الحدّ من عدد الأكوان لا يُعتبر من العوائق، إنّما يعدّ خطوةً لدفع هذه النّظريّة نحو الأمام؛ إذ يمنحنا أملًا جديدًا بإمكانيّة الوصول إلى تنبّؤاتٍ قابلةٍ للاختبار عمليّاً، ولكن يُصرُّ البعض الآخرُ على استمرار وجود مفهوم تعدّد الأكوان؛ فالمشكلة النّابعة عن هذا التّعدد برأيهم ليست بتلك الخطورة.
تألّق هذا النّقاش الشيّق ضمن مؤتمر الأوتار الّذي عُقد في شهر حزيران من عامنا الحالي في اليابان، حيث عبّر الفيزيائيّ دينلسون؛ من جامعة أوبسالا السّويديّة، عن مدى حداثة الفكرة واحتماليّة إحداثها لجدلٍ ضمن مجالها.
تمحور النّقاش حول ورقتين بحثيّتين أساسيّتين عن مفهومٍ جديد يُدعى "landscape of String Theory" يعبّر عن العدد الغامض للأكوان المُحتملة، والمُنبثق عن الحلول العديدة لمعادلات النّظرية؛ والّذي أنتج الخصائص المميّزة لكوننا الحالي بما فيها الطّاقة المُظلمة.
لكنّ غالبيّة الحلولِ المطروحة حتّى الآن متناقضةٌ رياضيّاً، ممّا جعلهم تحت ما يُسمّى "swampland"؛ الأكوانُ الّتي من غير المُمكن وجودها في الواقع، مُنضمّين بذلك إلى العديد من النّماذج المُستبعدة الّتي توصّل العلماء إليها عبر السّنين، وذلك رغم أنّ ما توصّل إليه العلماء الآن من حلولٍ قد يُحدث تغييرًا كبيرًا. نظريًّا، من المُحالِ أن نجد حلًّا منطقيًّا يراعي وجود طاقةٍ مظلمةٍ مستقرّةٍ، على حدّ تعبير الفيزيائيّ من جامعة هارفارد كامرون فافا "Cumrun Vava"؛ وهو من النّاشرين الرّئيسين للبحث.
تائهٌ في الأكوان المتعدّدة:
نظريّة الأوتار محاولةٌ للوصول إلى وصفِ مُجمل الكون تحت مُسمّى "نظريّة كلّ شيء"؛ وذلك من خلال افتراضِ أبعادٍ إضافيّةٍ من الزّمكان واعتبار الجسيمات حلقاتٍ ضئيلةٍ مهتزّة. عدّ الكثير من الفيزيائيّين المختصّين بالأوتارِ هذه الفكرةَ من أكثر الأفكار الواعدة في سبيل تحقيق حلم ألبرت آينشتاين بتوحيد نسبيّته العامّة مع عالَمِ ميكانيك الكم.
كانت فكرةُ وجودِ العديدِ من الأكوانِ بمثابةِ محطّة توقّف عندها بعضُ الفيزيائيّين، ومنهم الفيزيائيّ بول ستينهارت من جامعة برينستون؛ والّذي شارك في هذا البحث، إذ عدّ الفكرةَ بمثابةِ الموت للنّظريّة الأساسيّة لأنّها تُفقِدُها مفهوم التنبّؤ الّذي تتميّز به.
عبّر بعض الفيزيائيّين المختصّين بنظريّة الأوتار عن سعادتهم بإعادة النّظر الّتي تحدث حالياً حول هذا الموضوع؛ ومن بينهم الفيزيائيّ سافديب سيذي من جامعة شيكاغو. لكن فكرة أن يكون الـ "landscape" جزءًا من الـ "swampland" غير قابلةٍ للتّصديق من الجميع؛ خاصّةً من فريق الأبحاثِ الّذي نشرَ أحد النّماذج الأولى لها عام 2003؛ والّتي تحمل الاسم "KKLT" تيّمنًا بالأسماء الأخيرةِ للعلماء المشاركين بها.
بحث جوهانس كبلر عن تفسيرٍ للمسافة الّتي تبعد بها الأرض عن الشّمس، لكنّنا نعلم اليوم أنّ الشمس نجمٌ من بين مليارات النّجوم، وكلّ نجمٍ منها متبوعٌ بمجموعةٍ من الكواكب الّتي تدور حوله، لذلك نجد أنّ هذه المسافة ما هي إلا عددٌ عشوائيٌّ غير ناتجٍ عن عمليّات رياضيّة معقدة. كذلك الأمر؛ إذا كان كوننا واحدًا من العديد من الأكوان، فإنّ جميع البارمترات الخاصّة به ليست سوى أرقاٍم عشوائيّةٍ أثمر تناغمها بالمصادفة عن إنتاج كونٍ مناسب لنا؛ وذلك استنادًا لرأي كَتشرو "Kuchru" المشارك في النّقاش.
الكون المُتسارع:
إذا كانت نظريّة الأوتار لا تستطيع تضمين الطّاقة المظلمة المستقرّة، فمن المُمكن أن تقود البعضَ إلى الشكّ بها. لكن بالنّسبة لـ فافا الموضوع كان عكسيًّا؛ فقد جعله هذا التّناقض يعيدُ تفكيره بالمادّة المُظلمة نفسها.
تُدعى الطّاقة المُظلمة بشكلها الأكثرِ شيوعًا: الثّابت الكونيّ، وقد طرح الفكرة بدايةً آينشتاين عام 1917، لتعود الأنظار عليها عام 1998؛ عندما اكتشف روّاد الفضاء أن نسيج الزّمكان لا يتوسّع فحسب، بل يزداد معدّل هذا التوسّع، ممّا جعل الثّابت الكونيّ شكلٌ من أشكال الطّاقة الموجودة في فراغ الفضاء؛ والّذي لا يتغيّر لأشكالٍ أخرى من الطّاقة ويقاوم شدّ جاذبيّة الأجرام الكونيّة نحو بعضها البعض. لكنّ هذا التّفسير ليس الوحيد لظاهرة الكون المُتسارع، فالبديل هو ما يُدعى "الجوهر" أو "Quintessence"؛ وهو حقل يتضمّن طاقةً مظلمةً قابلةً للتّطوّر بداخله. بصرف النّظر عن إدراك وجود الطّاقة المظلمة المستقرة في نظرية الأوتار، إلا أنّ فكرةَ وجودِ مادّة مظلمة متغيّرةٍ مع الوقت تبدو فكرةً طبيعيّة ضمن نظريّتنا، ويمكننا حساب هذا التّغيّر عبر الأرصاد الفلكيّة؛ وفقًا لِـ فافا.
إلى الآن؛ تقف جميعُ الدّلائل الفلكيّةُ إلى جانب فكرة الثّابت الكونيّ، لكن هنالك تجارب تلوح في الأفق القريب؛ مثل استخدام تلسكوب "Euclid" الأوروبّي وتلسكوب ناسا "WFIRST" وبناءِ مرصد سايمونس "Simons" في صحراء تشيلي، لمحاولة الوصول إلى علاماتٍ ودلائلَ عن حقيقة الطّاقة المُظلمة في الماضي، وفيما إذا كانت أقوى أم أضعف ممّا هي عليه الآن.
حتى المشكّكين بفكرة فافا لم يعترضوا، بل وجدوها أنّ البدءَ بالبحث عن بديل لمفهوم الثّابت الكوني فكرةٌ صائبةٌ.
لم يكنِ الـ "Quintessence" الخيار البديل الوحيد، فقد عَمِلَ دانيسلون وبعضٌ من زملائه على طريقة أخرى في محاولةٍ لتضمين الطّاقة المُظلمةِ في نظريّة الأوتار؛ إذِ اعتمدوا على رؤيةٍ تصف كونَنا الثّلاثي الأبعادِ موجودًا ضمن فقاعةٍ تتوسّع في حيّز بأبعاد أكبر، بحيث يُمكن للفيزياء المُطبّقة ضمن هذه المساحةِ أن تحاكي الفيزياء الموجودة في الثّابت الكونيّ.
نظريةٌ رائعة:
رغم جمالِ النّظريّة ومعادلاتها، ورغم الجاذبيّةِ المُحيطة بها برأي الكثيرِ من العلماءِ، إلا أنّها ما زالت تفتقر أي دليلٍ تجريبيّ لدعهما؛ وقد أحبطت هذه الحقيقةُ العديد من الفيزيائيّين لدرجةِ أنّ بعضهم أمِلَ أن يكون الخطأ به وليسَ بالنّظرية.
يجعلنا النّقاش الدّائر حاليًّا حولَ نظرية الأوتار نفكّر بسؤال عميق جدًّا: ما الغاية من الفيزياء؟ وهل من المُمكن أن تفسّر لنا نظريّةٌ فيزيائيّةٌ أدقّ تفاصيلِ الكون؟ وعندما تُناقضُ نظريةٌ ما فكرةً نؤمن بها، هل علينا أن نتخلّى عن أفكارنا أم نتخلّى عن النّظرية؟
المصادر :