الرياضيات > الرياضيات
هل يمكنك تخمين العدد الأكبر؟ الجزء 6
ها نحن نقف على أبواب عالم الأعداد الكبيرة، ويحضُرُنا هنا تلميذ إقليدس إذ سأله: ما فائدة هذا كلّه؟ فنجيبه: لاحظنا أنّ التّقدّم في أنظمة ترميز الأعداد الكبيرة يعكس تقدّمًا في مجالاتٍ أوسع: الرّياضياتِ والمنطق وعلم الحاسوب، لكنّ كونَ المرآة تعكس الواقع لا يعني بالضّرورة أنّها تؤثّر عليه؛ فحتّى في الرّياضيّات غالبًا ما تُعدّ الأعداد الكبيرة أمرًا ثانويًّا، وتُعدّ دراستها تسليةً غيرَ ذات قيمةٍ أو آثارٍ على مجالاتٍ أخرى. لكنّ رأيي في ذلك مختلفٌ، فبرأيي فهم الأعداد الكبيرة مفتاحٌ لفهم العالم.
تخيّلوا أنّكم تشرحون آلة تورنڠ لأرخميدس، سيستمع لكم بصبرٍ وأنتم تشرحون الشّريطَ الورقيّ الممتدّ في كلا الاتّجاهين بلا نهاية، والخطواتِ الزّمنيّةَ وحالاتِ الشّريط وتسلسلَ المدخلات والمخرجات، وحالما تفرغون من الشّرح سينفجر قائلًا: هراء! لم تقدّموا إلّا تعريفًا شديد الإسهاب لا قيمةَ يفسّر شيئًا غير نفسه.
كيف ستردّون؟ لم يسمع أرخميدس بالحواسيب، الأجهزةِ الّتي ستدير شؤون العالم بأسره بعد ثلاثةٍ وعشرين قرنًا من زمنه، لذلك لا تستطيعون أن تروه تطبيقًا عمليًّا لتعريفكم، ولا تستطيعون حتّى اللّجوء إلى هيلبرت Hilbert والبرنامج التّشكيليّ لأنّه لم يسمع بهم أيضًا. وهنا تتذكّرون متتالية القنادس المنشغلة، فتعرّفونها لأرخميدس وتقنعونه بأنّ (B(1000 أكبر من 1063، عددِ حبّات الرّمل الكافية لملء الكون وفقًا لحساباته، بل هو أكبر من 1063 مرفوعةً إلى نفسها 1063 مرّةٍ، ثمّ تتحدّونه أن يأتي بعددٍ أكبرَ منه دون أن يستعين بآلة تورنڠ أو ما يعادلها، وحينها فقط ستتجلّى له قوّة مفهوم آلة تورنڠ. ورغمَ أنّ حدسه قد لا يستوعب أعداد القنادس المنشغلة، سترغمه عقلانيّته على الإقرار بضخامتها. وهكذا نرى أنّ الأعداد الكبيرة تضفي - بطريقتها الخاصّة - صبغةً واقعيّةً على المفاهيم المجرّدة.
يبدو أنّ العلمَ بحدّ ذاته محاولةُ العقل أن يسدَّ النّقص المتمثّل بانعدام قدرتنا على استيعاب الأعداد الكبيرة، فمثلًا: لو استطعنا الرّكض بسرعة 280 مليون مترٍ في الثّانية لما احتجنا إلى نظريّة النّسبيّة الخاصّة، ولكان واضحًا للجميع أنْ كلّما ازدادت سرعتنا أصبحنا أثقل وأشدّ انضغاطًا وانقضى الوقت بالنّسبة إلينا على نحوٍ أسرع من الّذي ينقضي عليه بالنّسبة إلى الآخرين. ولو استطعنا أن نبقى أحياءً 70 مليون سنةٍ لما ظهرت نظريّة التّطوّر، إذ كنّا لنشاهدَ ظهور الأنواع وتكيّفها بأمّهات أعيننا بدلًا من إعادة بناء ما مضى بشقّ الأنفس باستخدام الدّنا DNA والأحافير. ولو استطعنا خَبْزَ الخُبز في فرنٍ درجة حرارته 20 مليون كلڤن، لما كان الانصهار النّوويّ مجالًا حصريًّا للفيزيائيّين بل لكان معرفةً عاديّةً متوفّرةً في المنازل. لكنّنا ندرك أنّ ذلك كلّه ضربٌ من ضروب المستحيل، ولهذا نلجأ إلى العلم لاستنتاج حقائق ما ضخُم من الأشياء، الحقائقَ الّتي لم ولن نستطيع التّوصّل إليها بواسطة إمكاناتنا المتناهية في الصغر.
أعتقد أنّ النّاس يخشون الأعداد الكبيرة، فلقد التقيت بأُناسٍ لا يعرفون الفرق بين المليون والمليار حتّى إنّهم لا يهتمّون بمعرفة الفرق. نلعب ألعاب الحظّ آملين الحصول على إحدى فرص فوزنا السّتّ غيرَ آبهين بعشرين مليون فرصةٍ للخسارة. نتثاءب مستنشقين هواء غلافنا الجوّيّ الّذي ينبعث فيه ستّة مليارات طنٍّ من ثنائيّ أوكسيد الكربون كلّ عامٍ، ونتحدّث عن (التّنمية المستدامة) ونحن قائمون بين فكَّي وحش التّزايد الأسّيّ. يبدو لي أنّ هذه الحالات تُجاوِزُ الجهل الحسابيّ متعدّيةً إلى انعدامٍ واضحٍ في الرّغبة بالتّعامل مع الأعداد الضخمة.
من أين ينبع الخوف من الأَعداد الكبيرة إذَن؟ أيُعقَل أن يكون للأمر أصلٌ بيولوجيٌّ؟ عامَ 1999 ذكرت مجموعةٌ يقودها عالمُ النّفس العصبيّ ستانيسلاس دهين Stanislas Dehaen في مجلّة سايَنس Science أدلّةً على أنّ نظامين دماغيَّين منفصلَين مسؤولان عن التّفكير الرّياضيّ. درّبَتِ المجموعةُ مجموعةً من ثنائيّي اللّغة (النّاطقين بالإنكليزيّة والرّوسيّة) على حلّ مجموعةٍ من المسائل الرّياضيّة الّتي تضمّنت جمع أعداد بمرتبتَين والجمع في نظام العدّ الثّمانيّ والجذور المكعّبة واللّوڠاريتمات. أُجرِيَ التّدريبُ على بعض المواضيع باللّغة الرّوسيّة وعلى بعضها الآخر باللّغة الإنكليزيّة. وعندما طُلِبَ من المجموعتين حلّ المسائل بطريقةٍ تقريبيّةٍ كانت النّتائج جيّدةً في كلتا اللّغتين. لكن عندما طُلِبَ منهم حلُّ المسائل بطريقةٍ دقيقةٍ كان أداؤهم أفضلَ في لغة تدريبهم. وأظهرت أدلّة تصوير الدّماغ أنّ الفصوص الجداريّة المسؤولة عن الاستدلال المكانيّ كانت أنشط أثناء حلّ مسائل التّقريب في حين كانت الفصوص الجبهيّة السّفلى اليسرى المسؤولة عن الاستدلال اللّفظي أنشط أثناء حلّ مسائل الحساب الدّقيق. وأظهرت دراسات المرضى الّذين يعانون من آفاتٍ دماغيّةٍ الصّورة نفسها: فأولئك الّذين يعانون من آفاتٍ جداريّةٍ يفقدون القدرة أحيانًا على تحديد ما إذا كانت 9 أقربَ من 10 ممّا هي من 5، لكنّهم يتذكّرون جدول الضّرب، في حين أنّ من يعانون من أمراضٍ في الفصّ الأيسر لا يستطيعون تحديد ما إذا كان المجموع 2+2 يساوي 3 أم يساوي 4، لكنّهم يدركون أنّ العدد أقرب من 3 ممّا هو من 9. خمّن دهين وفريقه أنّ البشر يمثّلون الأعداد بطريقتين.ِ نستخدم في الحساب التّقريبيّ خطّ الأعداد الذهنيّ Mental Number Line الّذي تطوّر منذ وقتٍ طويلٍ، ومن المُرجَّح أنّنا نشترك فيه مع حيواناتٍ أخرى، ونستخدم للحساب الدّقيق الرّموز العدديّةَ الّتي طُوّرت مؤخَّرًا والّتي - كونَها تعتمد على اللّغة - يتفرّد بها الإنسان. تفسّر هذه الفرضيّةُ نتائجَ التّجربة تفسيرًا دقيقًا: السّبب وراء أنّ المتدرّبين قدّموا نتائجَ أفضلَ بلغة تدريبهم في الحسابات الدّقيقة لا في مسائل التّقريب هو أنّ المسؤول عن الأولى الفصوص الجبهيّة السّفلى اليسرى الّتي تتحكّم بالكلام، أمّا المسؤول عن الأخرى فصوص التّوجيه المكانيّ الجداريّة.
إن كانت فرضيّة دهين صحيحةً، فما التّمثيل الّذي ينبغي علينا استخدامه للأعداد الكبيرة؟ التّمثيل التّرميزيّ بالتّأكيد، إذ لا يمكن أن يكون خطّ الأعداد الذّهنيّ لدى أيّ شخصٍ طويلًا بما فيه الكفاية ليستوعب
هل يمكن أن يخفّف التّدخّل المبكّر هذا الخوف؟ فبدلًا من إفناء وقت الطّلّاب في إجراء عمليّاتٍ حسابيّةٍ روتينيّةٍ مضنيةٍ، لنسألهم: "كيف نستطيع تعيين عددٍ كبيرٍ جدًّا؟" ثمّ لنخبرهم عن الأسس والأسس المكدَّسة والقوّة الرباعية ومتتالية آكرمن حتّى أعداد القنادس المنشغلة. في ذلك وفرةٌ من الأعداد الكبيرة، وأفكارٌ ستمتدّ على حدود خيالهم.
المصدر: