الطب > مقالات طبية
نسبة انتحار الأطباء هي الأعلى بين الِمهَن
تمّ في عام 2018 وفي الاجتماع السنوي للجمعية المُتعلِّقة بالطب النفسيِّ الأمريكيّة (APA) إعلانُ مجموعةٍ من النتائج الإحصائية المُخيفةِ: هناك طبيبٌ ينتحرُ يومياًّ في الولاياتِ المتّحدةِ الأمريكيّةِ , و بنسبةٍ تساوي ضعفيّ نسبةِ انتحارِ المجموعِ العامِّ من الناسِ .
وقد تبيَّن أنَّ محاولاتِ الطبيباتِ الإناث في الانتحار أقلُّ من المحاولات لدى المجموع العام للإناث؛ إذ إنَّ نسبةَ إتمام عملية الانتحار وإنهاء الإناث لحياتهنَّ أعلى عند الطبيبات بـ 2,5 لـ 4 مرات من الإناث عمومًا، ونجد نسبةً مشابهةً لها عند الذكور. فما السبب وراء ذلك؟
لقد تعدَّدت الطرائق التي يحاول فيها المُقدمون على الانتحار إتمام عمليَّاتهم عن طريقها؛ إذ نجد مجموعةً من الطرائق الشائعة التي يشترك فيها الأطباء مع بقيَّة الناس منها القفز من المرتفعات والتسمُّم بالغاز والغرق، وقد وُجِد أنَّ استخدام المواد السامَّة أشيعُ عند الأطباء؛ وذلك لسببين: أولهما سهولة الوصول إلى هذه المواد، وثانيهما معرفتهم بالمواد الأكثر فتكًا وقتلًا والتي تضمنُ إنهاءَ حياتهم كُليًّا، ثم إنَّ قطع الشرايين تعدُّ وسيلةً شائعةً لديهم أيضًا لمعرفتهم النزوفَ القاتلة من غيرها.
وتختلف نوعيَّةَ المواد السامَّة التي يتناولها الأطباء المُقدمون على الانتحار حسب الاختصاص؛ إذ نجد عند أخصائيِّي التخدير استخدامَهم الأعلى لمواد التخدير، وعند الأطباء العامِّين الباربيتورات والأفيونات، في حين لا نجدُ شيوع استخدام الأدوية النفسية في الانتحار عند الأطباء النفسيين الذين يملكون أعلى نسبة انتحار بين الأطباء؛ وذلك بسبب معرفتهم طبيعة هذه الأدوية وقلَّة قدرتها على إنهاء الحياة مقارنةً بغيرها، ويعود تفسير هذه النسبة العالية لديهم بسبب كثرة تعرُّضهم للمشاعر السلبية التي يتلقَّونها من مرضاهم، وليس بسبب ضغط العمل الذي يُعدُّ عندهم أقلَّ من غيرهم من الاختصاصات.
تجعلنا النسبة العالية في إقدام الأطباء على الانتحار وبجانب سهولة وصولهم إلى المواد القاتلة نتساءل: ما الظروف التي يتعرَّض لها هؤلاء والتي تجعلهم يُقدمون على عمل كهذا؟
إنّّ التوتر المستمرَّ الذي يتعرَّض له الأشخاص في أثناء عملهم له شأن كبير في تطور أمراضٍ نفسيةٍ منها الاكتئاب، ونجد ذلك بنسبة مرتفعة بين الأطباء؛ إذ تبلغ نسبة الاكتئاب 12% عند الأطباء الذكور و19.5% عند الطبيبات الإناث، ونراه على نحو أكثر عند طلاب الطب والمُقيمين بنسبة 30-15%، إضافة إلى زيادة خطر الإدمان عند التعرُّض للتوتر المُستمرِّ؛ إذ يُعدُّ من عوامل خطورة الإقدام على الانتحار.
يتطور الاكتئاب عمومًا عند التعرُّض للإجهاد المُزمن بمجموعة من الآليات، ونحن نعلم أنَّ أجسامَنا تستجيب للشدَّة عند حدوث مرضٍ ما أو عند التعرُّض لضغط نفسي؛ وذلك بإفراز نواقل عصبية ومواد كيميائية عن طريق تفعيل المحور الوطائيِّ (النخاميِّ) الكظريِّ الذي يحثُّ الغدَّة الكظرية على إفراز القشرانيات السكرية، وعن طريق تفعيل الجهاز العصبي الودّي أيضًا؛ والذي يُطلقُ النورإيبينفرين والببتيد العصبيِّ Y، وكلُّ ذلك من شأنه أن يزيدَ ضربات القلب وضغط الدم؛ الأمر الذي يُساعد الجسمَ في المواجهة أو الهروب؛ ولكنَّ التعرُّض المُزمن لهذه المواد الكيماوية من شأنه أن يُحفِّز وسائطَ التهابيةٍ في الدماغ تنتهي بإنقاص تصنيع السيروتونين وتسريع إعادة قبطه إلى داخل المَشابك العصبية؛ الأمر الذي يُقلِّل من توافره، وبهذا يُقلِّل من فعاليته العصبية، ويُؤدِّي هذا النقصُ في السيروتونين الدورَ الأساسيَّ في تطور الاكتئاب.
هذا كله ولا يزال الأطباء يخفون إصابتهم بالاكتئاب ولا يطلبون العلاج؛ وذلك خوفًا من وصمة العار التي قد يُواجهونها في مجتمعهم، والتي قد تُلاحقهم لتعترض مسيرتهم المهنية والاجتماعية.
الانتحار ليس عارًا أو جريمة؛ بل هو مرضٌ علينا علاجه واستئصال أسبابه؛ إذ إنَّ الاكتئاب وتوافر طرائق الانتحار -كالمواد السامة- مشكلتان تُهدِّدان حياة طبيبٍ واحدٍ يوميًا، إنهما قضيَّتان علينا تسليط الضوء عليهما ومنع حدوثهما؛ إذ علينا علاج الاكتئاب والمُعرَّضين له من الأطباء خصوصًا وباقي الناس عمومًا، فعلاج الاكتئاب يتطلَّب خطواتٍ جديةٍ، فلا يكفي مجرَّد معرفة الشخص باكتئابه لتجنُّب وصوله إلى مرحلة الانتحار؛ بل عليه مراجعة الطبيب وتناولِ الأدوية المناسبة التي يصفها له، إضافة إلى تحديد وصول الأطباء إلى المواد القاتلة بإنقاص سهولة توافرها وإجراء المراقبة الصارمة من قِبَل المسؤولين في المستشفيات لاستهلاك هذه المواد.
المصادر: