الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة
قانون العلّية: لكل نتيجة سبب! (الجزء الأول)
السّببية هي مقولةٌ فلسفيةٌ تدلُّ على الرّوابط الضروريّة بين الظواهر، وهي التي تحتّمُ الواحدة منها (وتسمى السبب أو العلة) حدوثَ الظاهرة الأخرى (التي تسمّى المعلولَ أو الأثر)؛ وهي مبدأٌ أساسٌ للتصوّرات عن العالم، "فلكلّ حادثة عِلة"؛ أي مبدأٌ عقليٌّ افترضته النظرة الواحديّة الفلسفية مفاده أنّ لكلّ معلولٍ علةً أدّت إلى حدوثه، وتعدّ مقولة السببية (العلية) واحدة من المقولاتِ الأساسية للبحثِ العلميّ التي تُفضي دائمًا إلى اكتشاف التبعية السببية الأساسية.
وقد شكّلت هذه المصطلحات أساسًا للتفسيراتِ العقلية، فارتبطت في ذهن الكثير من الفلاسفةِ منذ القِدَمِ حتى العصر الحديث بالتّجريدات العقليّة المحضة معتبرينها مبدأً ضروريّاً فطريّاً مستقلّاً عن التجربة الحسّية وليس مشتقًّا منها.
وقد شكّل مبدأ السّببية التربةَ الخصبةَ لنموّ العلم الحديث، وتحددتْ مهمته بتعليلِ الظواهرِ عن طريق تحديد عِلّة كلّ حدث، فارتبط تفسير العلماء للقوانين العلمية الحتمية بالتفسير العِلّي الذي يفترض اطرادًا بين أحداث الطبيعة يجعلُها تسيرُ على وتيرةٍ واحدةٍ لا تتغيّر.
السّياقات التاريخيّة للعلة:
في الفلسفة اليونانية: أرسطو (العلل الأربعة):
عدّ أرسطو قانونَ العليّة من المقدمات الأولية، وقد عالجَ أرسطو العليّة، لا على أنها مبدأ فقط أو مشكلة طبيعية أو ميتافيزيقية؛ بل أيضًا على أنها قانونٌ عقليٌّ منطقيٌّ تستندُ عليه أبحاثُ المنطقِ جميعًا، وقد ارتبطت دراسته لها في المنطق بنظريته في القياس والاستقراء بما أنّهما استدلالاتٌ، وفي الاستدلال نستدلُّ على نتيجةِ من المقدمات، ومن الضروريّ أن تكون هذه المقدمات علةً لتلك النتيجة إذا ما كان الاستدلال -سواء في القياس أو الاستقراء- صحيحاً.
1 –العلّة الماديّة: وتُسمّى كذلك العنصرَ الذي يُشكّلُ الأرضيّةَ لظهورِ المعلول، وهو باقٍ في ضمنه، وهي المادّة التي يتكوّن منها الشيء، مثل العناصر المكونة للنباتات، والخشب المكوّن للأثاث.
2 –العلّة المحرّكة: يعني بها القوّة التي عملت على تغيير الشيء واتخاذِه شكلاً جديداً؛ أي العاملُ المؤثّر والمحرّك الذي به يوجد الشيء، كالنجار الذي يجعل من الخشب سريراً، فالنجّار علةٌ فاعلةٌ في صنع السرير، وأيضًا مثل تغيّر ورق الشجر من الأخضر إلى الأصفر.
3 –العلة الصّورية: هي روحُ الشيء وما بداخل هذا الشيء؛ أي عبارةٌ عن الصّورة التي توجد في المادّة وتصبح منشأً لظهورِ آثار جديدة فيها، مثل الصورة النباتية.
4 –العلة الغائيّة: هي الغرضُ أو الغاية أو المقصدُ الذي تتجه الحركة لإخراجه، فهي الدافع في الفاعل لإنجاز العمل، مثل الهدف الذي يأخذه الإنسان بعين النظر لأفعاله الاختيارية.
ويجدُ أرسطو في نظريّة العللِ الأربعة التعبيرَ الأمثل في تصوره للعالم الذي تتضمنه المادة والصورة، والقوة والفعل.
وقد أخذ هذا التقسيم الأرسطي للعلل فلاسفة الإسلام وفلاسفة القرون الوسطى، وقدموا العلة الغائية على سائر العلل.
في الفلسفة المسيحية: توما الأكويني (البرهان بالعلية):
يرى أنّ العلية تعتمدُ أساسًا على فكرةِ الوجود، فإذا قلنا وجود الله ووجود الأشياء لكانتِ الأشياء عابرةً أو حادثة، فالسؤال المطروح هو: ما العلاقة بين هذين اللونين من الوجود؟ وقد يوصَف الله بأنّه الوجود الذي يجعل وجودَ الأشياءِ مستحيلًا أو يجعلُ العلاقة بينهما مستحيلًا، فإذا كان الله هو الوجود الكامل الحقيقي أو الوجود الخالص، ألا يكونُ من المستحيل أن نتخيّل وجوداً آخر غيره؟
ونلاحظ أن هذه الفكرة تعتمدُ على إثبات الوجود الضروري، أو علة العالم، وإذا اتبعنا الترتيبَ الطبيعي للوجود، كانت مسألة الله أو مبدأ الأشياء أوّلَ مسألةٍ تلقّاها، فإذا كان الله أوّلَ الموجودات وأصلِها سيُطرَح السؤال الآتي: هل الله موجود؟
وهذه المشكلة مسيحيّة أساسًا ولم تظهر في الفكر اليوناني، وتندرجُ ضمن ما يعرف بعلْم اللاهوت عند المسيحيين وعلْم الكلام عند المسلمين، وقدّم القديس توما الأكويني براهينَ عديدةً على وجود الله منها برهان العلّية.
ونجد من خلال هذا البرهان أنّ كلّ ظاهرةٍ تحدثُ لا بدّ من سبب لحدوثها وعلّةٍ لإيجادها، وذلك لأنّه لا يمكنُ للشيء أن يكونَ علةً بنفسه لأن العلة تسبق المعلول بالضرورة، فإذا كان الشّيءُ علةً لنفسه يكون الشيءُ الواحدُ سابقاً نفسَه وهذا باطل؛ إذن لا بدّ من أن يكون للشيء علةٌ غيرُه إلا أنّ ذلك لا يستمرُّ إلى غير نهاية لبطلانِ التسلسل؛ بل لا بد من الوقوفِ عندَ علّةٍ أولى تكونُ عِلّةَ العلل، ذلك لأن التأثير العلي لا بدّ من أن يأتيَ من علّةٍ محددة معلومةٍ وهي الله.
المصادر:
1. سوسان الياس، السببية (العلية)، الموسوعة العربية.
2. أحمد أمين، قصة الفلسفة اليونانية، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1935.
3. جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج2، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان.