البيولوجيا والتطوّر > علم الأعصاب
لا تقلق! الأفكار السيئة أصبحت من الماضي
لا بُدَّ من أنَّ معظمَنا مرَّ بتجربةِ عدم قدرته على كبح أفكارٍ لا يُريد التفكير فيها وعانى من تكرارها مرارًا، فهي تَجول في أذهاننا وتُفقدنا تركيزَنا وتزيد من توتُّرنا، وتسيطر تمامًا في نومنا ويقظتنا. لا تقلق؛ فيبدو أنَّ العلماء اقتربوا من إيجاد الحلّ؛ إذ حدَّدوا مادةً كيميائيةً رئيسةً في الدماغ تسمح لنا بقمع الأفكار غير المرغوبة، وقد ساعد ذلك في تفسير معاناة الأفراد من اضطراباتٍ عديدة؛ مثل القلق والاكتئاب والفصام أو اضطرابات ما بعد الصدمة.
يحدث أحيانًا أن تُسيطر الأفكارُ السيِّئةُ علينا كالذكريات غير السارَّة أو الصور أوالمخاوف من شيءٍ ما، ويحدث ذلك رغمًا عنَّا بالطبع، وبالتأكيد لن نعاني من هذه المشكلة في حال كانت الأفكارُ إيجابيةً، ولكنَّ المشكلةَ الحقيقية فيما إذا كانت الفكرة مُحبِطة أو مُحزِنة، فقد تُعيدنا إلى الحدث السلبيّ مرة أخرى.
يقول البروفسيور Michael Anderson من وحدة الأبحاث المعرفية وعلوم الدماغ؛ والذي أصبح تابعًا لجامعة كامبردج مؤخَّرًا: "إنَّ قدرتنا على التحكُّم بأفكارنا أمرٌ أساسيٌّ لسعادتنا، وعندما تنهار هذه القدرة فإنها تُسبِّب الأعراض الأكثر إرهاقًا؛ كالهلوسة والإجهاد والمخاوف المَرَضيَّة المستمرَّة، والتي تُعدُّ أعراضًا رئيسةً للفصام والاكتئاب والقلق". ويُشبِّه البروفسور Anderson قدرتَنا على التدخُّل لمنع استرجاع ذكرياتٍ وأفكارٍ مُعيَّنةٍ بقدرتنا على منع الأفعال البدنيَّة، ويقول في هذا الخصوص بأننا نمتلك ردودَ أفعال فيزيائية سريعة غالبًا ما تكون مفيدة، ولكننا في بعض الأحيان نحتاج إلى أن نكون قادرين على السيطرة عليها وإيقافها، وفي المقابل يجب أن تكون هناك آليةٌ مُماثلةٌ لإيقاف الأفكار غير المرغوب فيها. فمن المعروف أنَّ القشرة الدماغية في الفصِّ الجبهيِّ تُؤدِّي دورًا مُهمًّا في السيطرة على أعمالنا، وقد تبيَّن مؤخَّرًا أنَّ لها دورًا مُماثلًا في السيطرة على أفكارنا؛ فهي تُؤدِّي دورَ المُنظِّم الرئيس الذي يُنظِّم عملَ مناطق الدماغ الأخرى.
ففي بحثٍ نُشِرَ في مجلة Nature Communications استخدم فريقٌ من العلماء بقيادة الدكتورTaylor Schmitz والبروفيسور Anderson اختبارًا يُدعى بـ(التفكير/عدم التفكير) كطريقةٍ لتحديد عملية دماغية جديدة، والتي تُمكِّن القشرةَ الجبهيةَ في الدماغ من كبح الأفكار غير المرغوب فيها.
يتعلَّم المشاركون في هذا الاختبار وضعَ مجموعةٍ من الكلمات على شكل أزواجٍ لا تربط بينها أيَّة علاقة؛ مثلًا (محنة/ صرصور) (طحالب/شمال)، ويُطلَب من المشاركين في مرحلةٍ لاحقةٍ أن يتذكَّروا الكلمةَ المُرافقة في حال ظهرت الكلمة الأولى بالأخضر أو قمع التذكُّر إذا ظهرت الكلمة باللون الأحمر؛ فمثلًا عندما تظهر كلمة (محنة) باللون الأحمر يُطلَب من المشاركين التَّحديق في الكلمة لقمع أنفسهم من التفكير في الكلمة المُرافقة (صرصور).
تمكَّن الباحثون - باستخدام الرنين المغناطيسي الوظيفي والرنين المغناطيسي الطيفي - من مُراقبة ما كان يحدث في مناطقَ رئيسةٍ من الدماغ كلَّما حاول المشاركون منعَ أفكارهم، ومكَّن التحليلُ الطيفيُّ الباحثين من قياس كيميائيةِ الدماغ، وليس فعاليته فقط كما هو الحال في الدراسات التي تعتمد على التصوير. وقد أظهرت الدراسةُ السابقةُ أنَّ القدرةَ على تثبيط الأفكار غير المرغوب فيها تحدث عن طريق ناقلٍ عصبيٍّ يُسمَّى الناقل غابا GABA؛ وهو الناقل العصبي المُثبِّط الرئيس في الدماغ، ويمكن أن يُؤدِّي إطلاقُه من خلية عصبية واحدة إلى كبح النشاط في جميع الخلايا العصبية المرتبطة بها.
واكتشف Anderson أنَّه يمكن لتركيز الناقل العصبي (غابا) في منطقة الحُصين (تحت المِهاد) أن يتنبَّأ بقدرة الأشخاص على منع عملية الاسترجاع ومنع الأفكار والذكريات من العودة، ويُبيِّن ذلك تفاصيلَ مُحدَّدة عن أكثر النواقل العصبية أهمية، ونتيجةً لذلك فقد بات من الممكن تحديد دور الخلايا العصبية المُثبِّطة في تمكيننا من إيقاف الأفكار غير المرغوب فيها.
في حين ركَّزت الأبحاث السابقة على منطقة من القشرة المُخيَّة - وهي المنطقة ما قبل الجبهية والتي تُعَدُّ مركز القيادة - استطاع هذا البحث أن يُثبت أنَّ هذه الصورة غيرُ كاملة، وأنَّ لتحت المِهاد الدورَ الأكبرَ في كبح الأفكار غير المرغوبة؛ إذ تتلقَّى الأوامر من المنطقة ما قبل الجبهية.
ووجد الباحثون بعد دراسةٍ أُجريَت على عدد من الشباب الأصحَّاء أنَّ من لديهم كمية أقلّ من الناقل العصبي (غابا) في منطقة تحت المِهاد كانوا أقلَّ قدرةً على كبح الأفكار غير المرغوبة، وكذلك يمكن لهذا البحث الإجابة عن بعض الأسئلة المُرتبطة بالفصام؛ فقد أظهرت النتائج أنَّ الأشخاص المُصابين بالفصام لديهم فرط نشاطٍ في منطقة تحت المِهاد بسبب نقص تركيز الناقل العصبي (غابا)، ويرتبط ذلك مع أعراضٍ تداخُليةٍ كالهلوسة. وبعد وفاة الأشخاص المُصابين أُجريَت دراسةٌ على الخلايا العصبية التي تَستخدم الناقلَ (غابا) في منطقة تحت المِهاد لديهم؛ تبيَّن أنَّ خللًا يطرأ على هذه الخلايا؛ ما يجعل من الصعب على القشرة المُخيَّة قبل الجبهيَّة أن تُنظِّم النشاط في منطقة تحت المِهاد والتي تفشل بدورها في تثبيط الأفكار والذكريات الشاذَّة التي تكون واضحةً في حالة الهلوسة، وقد أظهرت الدراسات فعلًا ترافُقَ اضطرابات ما بعد الصدمة والقلق والاكتئاب المُزمِن بنشاطٍ مرتفعٍ في منطقة تحت المِهاد، وتشمل هذه الاضطرابات عدمَ القدرة على التحكُّم في الأفكار إضافةً إلى القلق المُفرط، في حين أنَّ الدراسة لا تُقدِّم أيَّ علاجات فورية؛ لكنَّها تُقدِّم نهجًا جديدًا لمعالجة الأفكار التداخليَّة في هذه الاضطرابات، وذلك عن طريق تحسين نشاط الناقل العصبي (غابا) في منطقة تحت المِهاد.
لهذا لا تستبعدْ أن تجد في المُستقبل دواءً يُباع بأسماء رنَّانة وجذَّابة مُهمَّتها أن تُساعدنا على كبح أفكارنا التي لا نرغب فيها، تخيَّل أن تطلب من الصيدلانيِّ دواءً اسمه غابانسيان مثلًا..!
مصادر المقال