الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة
قانون العلّية: لكل نتيجة سبب! (الجزء الثاني)
السّببيّة هي مقولةٌ فلسفيّة تدلُّ على الروابطِ الضّروريّةِ بين الظواهر التي تحتّم الواحدة منها (وتسمى السبب أو العلة) حدوثَ الظّاهرة الأخرى (التي تسمى المعلول أو الأثر)؛ وهي مبدأٌ أساسٌ للتصوّرات عن العالم، "فلكلِّ حادثةٍ علّةٌ"؛ أي مبدأٌ عقليٌّ افترضتْه النّظرةُ الواحديّة الفلسفيّة، مفادُه أنّ لكلّ معلولٍ علّةٌ أدّت إلى حدوثه، وتعدّ مقولةُ السّببيّة (العلية) واحدةً من المقولاتِ الأساسيّة للبحثِ العلميّ؛ وهي التي تُفْضِي دائمًا إلى اكتشاف التبعيّة السببيّة الأساسيّة.
عرضنا في الجزء الأوّل السببية في الفلسفة اليونانية والفلسفة المسيحية هنا
في الفلسفة الإسلامية:
ابن سينا (مبدأُ الواحدِ الذي لا يَصْدُرُ عنْه إلا واحد):
سبّب "مبدأ الواحد" جدلاً واسعاً بين الفلاسفةِ والمتكلمين، ولعلّ سببَ الجدلِ عن هذا المبدأ هو اختلافات الفهم والاستعمال له.
فمنْ جملةِ الاختلافاتِ اختلافٌ يطرح سؤالاً؛ هل المقصودُ من وحدةِ العلّةِ هو الوحدة الشخصيّة أم الوحدة النوعيّة أم المقصود أنّها البساطةُ بتمامِ معنى الكلمة؟ وعلى هذا الأساس؛ عُدّتْ هذه القاعدةُ مختصّةً بالذات الإلهيّة المقدّسة التي تُبَرَّأُ حتّى من التركيب التحليلي، فيكونُ معلولُها موجودًا واحدًا.
إنّ مبدأَ الواحدِ لا يصدرُ عنه إلا واحدٌ تتفرَّعُ عن القاعدة التي تقول: "إذا كانتِ العلّيّة ذات خاصيّة واحدة فلا يمكن أن يكون معلولها ذا خاصيتين أو أكثر، وإذا كانَ المعلولُ واحدًا في خاصيّته فإنّه يستحيل صدوره عن عللٍ تامّة كثيرة؛ إذ لو كانَ لعِلّةٍ من العللِ المتعددةِ خواصّها أثرٌ في معلولها لبانَ الأثر وظهرت آثار العلة، ولَكانَ في المعلولِ آثارٌ وخواصٌّ متعددةٌ بعددِ العلل المؤثرة فيه، لا أثراً واحداً وخاصّةً واحدةً.
وتقومُ نظريّة الفيضِ عند ابن سينا على أساس أنّ الخلقَ يقوم على فعل التأمل الإلهي للذات وهذه المعرفة التي يعيها الكائن الإلهي لنفسه منذ الأزل.
الفيض الأول والعقل الأول، وهو المعلول الأول والوحيدُ للقدرةِ الخلاّقة، والمماثل للفكر الإلهي؛ يؤمنُ بالانتقال من الواحد إلى الكثرة مع المحافظة على مبدأ "الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد"، وانطلاقاً من هذا العقل تنشأُ الكثرة في الوجود.
وهكذا يجد ابن سينا نفسه معتنقاً نظريّة الفيضِ الأفلوطينية من جهة، ومبدأَ الضّرورة المنطقية القائل متى وجدت العلة وجد المعلول عنها حتمًا وهذا المبدأ يعود الى أرسطو.
في الفلسفة الحديثة:
ليبنتز (مبدأ السبب الكافي):
وقد ارتبطَ مبدأُ السّبب الكافي في تاريخِ الفلسفة بالمفكر الألماني "ليبنتز" الذي يصرّح في إحدى رسائله المتبادلة مع كلارك بقوله: "يمكن القول إجمالاً إنّ تطوّرَ الفكرِ البشريّ يقوم على مبدَأَيْن أساسين: هما مبدأُ عدم التناقض الذي يؤدّي دورًا رئيسًا في تطوّر العلوم الرياضيّة، ومبدأُ السّبب الكافي الذي يتمتع بالأهميّة نفسها في تطوّر العلوم الطبيعية".
يميّز ليبنتز بين حقائقِ العقلِ وحقائقِ الواقع، فقضايا العقل ضروريّة؛ أيّ إمّا أن تكونَ واضحةً بذاتها أو واضحةً بردّها إلى قضايا أخرى واضحةٍ بذاتها، وعند معرفتنا بالفعل ماذا تعني القضايا؛ نكون قد عرفنا أن عكسها لا يمكن أن يكون صادقًا، فكلّ حقائقِ العقلِ صادرةٌ بالضّرورة عن مبدأ عدم التناقض، أمّا حقائقُ الواقعِ فهي ليستْ من قبيلِ القضايا الضرورية؛ إذ يمكن تصوّر عكسها أو إنكارها دون الوقوع في تناقض.
وقد حاولَ ليبنتز أن يوضّح منزلةَ الحقيقةِ العارضة في نظامه بمفهوم مبدأ السبب الكافي، وقد رأينا ما هي الحقائقُ الضّروريّة التي يتكفّل بها مبدأ عدم التناقض، ولكنّ ليبنتز يرى أنّ هناك كذلك مبدأَ السّببُ أو العلة الكافية، وهو الذي بمقتضاه نعتقدُ أنّه لا يمكن لأيّ واقعةٍ أن تكونَ حقيقةً أو موجودة دون سبب كافٍ لوجودها على هذا النحو أو غيره -وإن كان لا بدّ من أن تظلّ هذه العلل مجهولةً عندنا- والقول إن الله باختياره عالمَنا من بين العوالم الممكنة بوصفه الأكمل ينجمُ عنه علّة لأيّ حادثةٍ في العالم من ناحية المبدأ توجد على مستوى الاختيار الأصلي الذي قام الله به.
ونلاحظ أن نظرية ليبنتز تتقاطع مع ما قرره الأشاعرة والغزالي؛ بأنّ مبدأَ العليّة في الموجوداتِ يسيرُ وفْقَ إرادةٍ إلهيّة جعلت نظام الكون يسير وفقها وليس بقوة مودعة في العلة يصدر عنها المعلول..
المصادر:
1. جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج2، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان.
2. يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، كلمات عربية للترجمة والنشر، مصر، 2012.
3. فريدريك كوبلستون، تاريخ الفلسفة من ديكارت الى ليبنتز.
4. وليم كلي رايت، تاريخ الفلسفة الحديثة، ترجمة محمود سيد أحمد، التنوير للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 2010.