العمارة والتشييد > التصميم العمراني وتخطيط المدن
كلُّ الطرق تؤدِّي إلى روما
أنشأ الرُّومان الطُّرق في كلِّ المناطق التي غزوها ليصلوا بينها وبين باقي مدنهم، وظهرت جرأةُ مهندسيهم جليَّةً في المخطَّطات الطُّرقيَّة، إذ حاولوا وصلَ المدن بخطوطٍ مستقيمةٍ متغلِّبين على العقبات التَّضاريسيَّة أو الصعوبات التي قد تواجه العمَّال أثناءَ تنفيذ المخطَّطات.
واستدعت جرأةُ التَّخطيطِ هذه استخدامَ منشآتٍ هندسيَّةٍ مساعدةٍ كالجسورِ والأنفاقِ والقناطر وغيرها، وأصبح العديد من هذه المنشآت معالم هامَّة تمتدُّ من البرتغال إلى القسطنطينية بطولٍ يتجاوز الـ 120 ألف كيلومتر، مسهِّلةً بذلك حركةَ الجيوش والسُّكَّان والبضائع بين مدنِ الإمبراطوريَّة، وساهمت هذه الطُّرق في بسطِ سيطرة الرُّومان على عددٍ كبيرٍ من البلدان، ممَّا أسهمَ في توحيدِ ثقافاتهم وشعوبِهم تحت حكمٍ واحد.
ووفقًا لفريقِ البحث من مدينةِ شتوتغارت -المُختَصّ بالمواضيع المتعلِّقة بأنظمة النقل الحضريَّة- إنَّ المقولة الشَّهيرة "كلُّ الطُّرق تؤدِّي لروما" ليست مجرَّد مقولةٍ فحسب، إذ تمكَّن الفريق من إثباتِ هذه الفكرة عن طريقِ دراسةٍ أجروها تتبَّعت جميعَ الطُّرق الواصلة بين مدن أوربا ومدينة روما.
فبعد اعتماد شبكةٍ تغطِّي كامل القارَّة الأوربيَّة بمساحةٍ تتجاوز 26.5 مليون كيلومتر مربَّع، حدَّدَ الباحثون 486،713 نقطة بداية، وطوَّروا خوارزميَّة لحساب أقصر طريقٍ يصل بين كلٍّ من هذه النّقاط والعاصمة الإيطاليَّة، وأظهرت خريطةُ الطُّرق النَّاتجة شبكةً طرقيَّةً متشابكةً تلتقي الطُّرق فيها متَّجهةً إلى مدينة روما، إذ وضِّحَت الطُّرق بسماكاتٍ مختلفة تبعًا لكثافةِ المارَّة على كلِّ طريقٍ منها.
لم يخترع الرُّومان الطُّرق طبعًا، ولكنَّهم أخذوا الفكرةَ العائدةَ للعصرِ البرونزيّ وطوروا هذا المفهوم، وأوَّل وأشهر طريقٍ بنوه هو Via Appia عام 312 قبل الميلاد بطولِ 196 كيلومتراً والذي يصل روما بمدينة كابوا Capua بطريقٍ مستقيم،ٍ وقد عُرِفَ حينها بـ Regina Viarum أو "ملكة الطُّرق" Queen of Roads'.
تغلَّبَ المهندسون الرُّومان على جميع العقبات التي واجهتهم للوصول إلى هدفهم بالحصول على أقصر طريقٍ ممكنٍ بين نقطتين، فجفَّفوا المستنقعات وقطعوا الغابات وحوَّلوا جريان الجداول وحفروا الصخورَ الكبيرة وأطراف الجبال، وبنوا الجسورَ لقطعِ الأنهار والقناطرَ لقطعِ الوديان والأنفاق لعبورِ الجبال، ثمَّ سوَّوا الطُّرق ودعَّموها بالجدران الدَّاعمة والمصاطب ممَّا ساهم في ديمومتها لمدَّةٍ تجاوزت الـ 800 عام.
امتلكتِ الطُّرق في زمن الإمبراطوريَّة مهمَّةً تجاوزت المهام الاعتياديَّة المتمثِّلة بتأمينِ حركةِ الجيوش والسُّكَّان والبضائع، وهي بسطُ نفوذِ الرُّومان على أراضي الإمبراطوريَّة والتَّبادل التِّجاريّ والثَّقافي، ولهذا كانت جميع الطُّرق الرُّومانيَّة تبدأ وتنتهي بقوسٍ للنَّصر، وكان كلُّ طريقٍ يُسمَّى باسم المسؤول الَّذي موَّله كطريق Via Appia -المذكور سابقًا- والذي أخذ اسمه من Appius Claudius Caecus.
خُطِّطت معظم الطُّرق بعرض 4.2 متر وهو العرضُ الأمثل لمرورِ عربتين رومانيَّتين بجانب بعضهما، وفُرِشت كافَّة الطُّرق بطبقةِ حصويَّاتٍ مخلوطةٍ بالكلس أو بصخورٍ بركانيَّةٍ كالبازلت.
وكان إنشاءُ الطُّرقِ يبدأ بحفرِ خندقٍ ومدِّ أساسٍ من الحصويَّات الخشنة والحجارةِ المكسَّرة والطِّين إضافةً للأخشاب في مناطقِ المستنقعات، تتبعها طبقةُ حصويَّاتٍ ناعمة مع إنهاء الطَّريق بطبقةٍ سطحيَّةٍ من البلاطاتِ الحجريَّةِ.
وأُعطِيَت جميع الطُّرق ميولًا جانبيَّةً لتصريف مياه الأمطار إلى قنواتٍ ومصارف خاصَّة -كما في وقتنا الحاليّ- وبُنِيَت أرصفةٌ على جوانب الطُّرق بعرضٍ تراوح بين 1-3 أمتار لمرورِ المشاة بعيدًا عن المركبات، إضافةً إلى أطروفةٍ ترتفعُ عن الرَّصيف كل 3-5 أمتار لمنعِ صعودِ العربات على الأرصفة ومساعدةِ المسافرين على ركوبِ أحصنتهم.
وما تزال هذه الصُّروح الطُّرقيَّة تشهد على إبداع الرُّومان حتَّى يومنا هذا بدءًا من جسر Ponte De Mele البسيط ذي المحاز 3.6 متر إلى جسرِ نهر Carapelle ذي المجاز 700 متر والمحمول على عشرة أقواسٍ، إضافةً إلى الأنفاق كنفق Cumaea الذي يمتدُّ 1000 متر وغيره من الأنفاق التي يمتدُّ بعضها ما يزيد عن 750 متراً، وكانت الأنفاق تُحفر من جهتي النَّفق ليلتقي عمَّالُ الحفر في منتصفِ المسافة لينتهي الحفر ويصبحَ النَّفقُ جاهزًا، بالإضافة إلى حفر فُتَح تهويةٍ علويَّةٍ من الأعلى لتهوية النَّفق ومعايرة الحفر من الجهتين، وتظهِرُ طريقة الحفر البدائيَّة المعتمدة على نقب الصخور دقَّةَ الأعمال الإنشائيَّة، إذ لم تتجاوز سرعةُ الحفر في كثيرٍ من الأحيان 30 سم في اليوم مما يعني استمرار العمل في حفر النفق عدَّة سنوات.
أنشأتِ الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة في ذروةِ مجدِها شبكةً طرقيَّةً امتدَّت على كاملِ القارَّة الأوربيَّة من بريطانيا وحتَّى تركيَّا واصلةً 113 إقليمًا من أقاليمها بما يزيد عن 373 طريقًا يزيدُ طولها عن 80 ألف كيلومتر، وما زالت أهمُّ طرق أوربا الرَّئيسة مبنيَّةً على طرقٍ أنشأتها الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة.
فما رأيكم؟ هل كانت هذه الطُّرقُ عاملًا مهمًّا في قوَّةِ الإمبراطوريَّةِ الرُّمانيَّة ونفوذها؟ شاركونا بآرائكم.
المصادر: