الموسيقا > سلسلة الباليهات العالمية
باليه الطائرالناري The Firebird
رأى سيرغي ديغياليف (متعهد كبير للباليه الروسية) أنه حان الوقت لتجسيد عمل باليه يحاكي أحد الأساطير الروسية ، ووقع اختياره على سترافنسكي(Stravinsky) الذي كان يبلغ 26 سنة آنذاك، الأمر الذي لم يجعل اللجنة المختارة تثق بقدرته على إكمال هذا المشروع الكبير بوقت قصير ، الا أن سترافنسكي بدأ على الفور بالعمل على باليه الطائر الناري (Firebird)المستوحاة من الأسطورة الروسية .
قصة العمل:
القصة ماخوذة من ادوين ايفانز(Edwin Evans) وتتمثل بوجود غول أخضر متوحش يدعى كاتشاي (Kastchei) ميزة كاتشاي تتمثل بأن روحه ليست موجودة في جسده الممسوخ بل هي محفوظة في البيضة الثمينة بعيداً بحيث لا يصيبها الضرر وطالما هي موجودة فإن روحه الشريرة خالدة ولا يطالها الموت، تلك القوة جعلته مستبداً جداً حيث أنه كان يحتجز الأميرات الحسناوات بعيدا في قصره و يقوم بتحويل كل من دافع عنهم من ذكور إلى حجارة.
لم يعبأ كاتشاي بما يمكن للحب ان يفعل بالانسان و نسي أن نقطة ضعفه هي سر قوته اللامتناهية، حيث أن تدمير البيضة تطعن بروحه وتقتلها وتعني زواله إلى الأبد، ففي أحد الأيام رأى الأمير إيفان وهو في الصيد طيراً مضيئاً بريشه الملتهب ،فيتبعه إلى أن وصل إلى حديقة الوحش السحرية ويحاول السيطرة عليه ، فيتوسل الطائر الناري لنيل حريته فيحن الأمير إيفان بعد أن سيطر عليه ويقوم بتركه، فيعطيه الطير ريشه من ريشه ذات اللون الأحمر الملتهب والتي تشير الى أن الطائر سيساعد الأمير في وقت الحاجة.
وعند بزوغ الفجر خرجت من القصر الأميرات الحسناوات الى الحديقة ليرفهن عن أنفسهن بالتفاحات الذهبية التي كانت تنمو هناك، أراد إيفان بعد طول تردد الانضمام إليهن ويشاركهن اللعب ،وتنشأ علاقة حب بينه وبين أميرة حسناء منهن ويتعلق بها ولكن الأميرات ما إن أحسسن بقرب رجوع الوحش هربوا عائدين إلى القصر خوفاً من الوحش كاتشاي و يحذرن الأمير من بطش الغول الذي يحول الآدميين إلى صخر ، الا أن حب الأمير للأميرة الحسناء جعله يقتحم القصر ليلحق بالأميرات، فتدق الأجراس السحرية وتبدأ المعركة بين الأمير و موكب الضحايا المشوه بقيادة كاتشاي ( لا يمكن لجيش كاتشاي أن يتحرك إلّا بأمر من كاتشاي نفسه) و حين اقترب الغول من الفوز و بدأ الأمير باليأس تذكّر الريشة النارية والطائر فيقوم باستدعائه في الحال و تبدأ الرقصة بين الطائر والوحش فيتعب الغول و ينام، عندها يدلي الطائر سر الغول على الأمير الذي ما ان عرف أن سر خلود كاتشاي هو روحه المحفوظة في بيضة مخبأة بجذع شجرة ليقوم بالذهاب الى مكان وجود هذه البيضة و يحطمها على الفور، فيموت كاتشاي ويبطل سحره وتعود الأميرات لصورهن الآدمية ويتحد الأمير مع محبوبته الأميرة الحسناء.
.........................
موسيقيا:
أثارت هذه القصة خيال سترافنسكي ليصوغها بروح تقترب من روح أستاذه رمسكي كورساكوف بهارمونياته الكروماتية وتلوينه الأوركسترالي الباذخ ولعل سترافنسكي قد لخص في هذه الموسيقا أعظم ما حققه كورساكوف في أوبراته الأسطورية غير أنه خطا خطوة أبعد منها بهارمونياته الكروماتية البالغة التعقيد ثم في استخدامه للسلالم السداسية، كما يغلب على الموسيقا في بعض اللحظات طابع تأثيري من انطباعية ديبوسي كما تأثر بالفرنسيين ببعض لفتات من موسيقا بول ديكا Dukas (في تلميذ الساحر)، ولكن هذه الموسيقا أبعد ما تكون عن النقل أو الانتخابية فهي تحمل بشائر أسلوب سترافنسكي الشخصي الذي أبرز نفسه كموسيقي مهم على الساحة آنذاك وقد أعد منها المؤلف متتابعة أوركسترالية سنة 1911 تتألف من ست حركات متتابعة : مقدمة-رقصة-الطائرة النارية-رقصة الأميرات الدائرية-رقصة كاتشاي الشيطانية "أغنية مهد Berceuse" ثم ختام Finale.
والذي يهمنا هنا هو علاقة أسلوب هذا العمل بالموسيقى الشعبية الروسية وهي علاقة أعمق من مجرد إدماج ألحان شعبية في النسيج الموسيقى المعقد فالألحان الشعبية التي بنى عليها أو استوحى منها سترافنسكي رقصة الطائرأو رقصة الأميرات وحركة الختام تتميز بأبعاد موسيقية خاصة بالفولكلور الروسي،و تميز هذا العمل بعدة أشياء أهمها استخدام بعد الرابعة الزائدة (Tritone) الذي يتغلغل في النسيج الموسيقي كله، ويضفي هذا البعد على الباليه كله ظلالا إيحائية خاصة منذ أن يسمع في المقدمة من آلات التشيلو بصوت تظلله كاتمات الصوت (sordino)لآلة الكونترباص، ثم يأخذ هذا اللحن في التصاعد التدريجي وتقاطعه من آن لآخر أصوات نفاذة وكأنها طيور سحرية وهي أصوات أثيرية (فلاجولية Flageolet ) تكملها آلات الكلارينيت والباصون بحركات مبهجة، ومنذ البداية تدور الموسيقا حول محور اللحن الاستهلالي ذي الرابعة الزائدة(Tritone). ولا تستطيع هذه السطور إلا أن تشير بإيجاز لبعض الملامح الشائعة في موسيقا الباليه ولانعكاس الموسيقا الروسية عليها فمن اللحظات البليغة في رقصة الطائر الناري ذات التلوين الأوركسترالي البارع توحي بها وهو يرفرف بأجنحته محاولاً الفكاك ويسود الموسيقى جو من العذوبة يبرز فيه لحن الأغنية الشعبية في تناوب شائق مع آلة الباصون ثم مع بقية الآلات الخشبية في مناطق متباينة وذلك فوق خلفية ناعمة تعزفه الآلات الوترية والهورن.
أظهر سترافنسكي ذاته الموسيقية المبدعة في رقصة كاتشاي حيث تظهر بوادر هامة أصبحت من الخصائص المميزة لأسلوبه على رأسها الإيقاع الذي يبلغ أوج حيويته فتتحول الموازين العادية فيه إلى أنماط مركبة بواسطة الضغوط المستمرة (السنكوب) ويضيف التلوين بعداً نفسياً معبراً عن هذه الشخصية الشريرة في مزيج من الآلات النحاسية والإيقاع في تلوين فاقع تسمع فيه آلات الاكسيلوفون والترمبون بنغمات منزلقة (Glissando)، وتنتقل الموسيقا في أغنية الهدهده لجو أهدأ على سبيل التباين يستخدم فيه المؤلف لحن الرابعة الزائدة (Tritone) والذي سبق ظهوره بشكل آخر في رقصة كاتشاي وكإشعار بنائي في الباليه كله. وتؤدي آلات الكمان والهارب لحن متكرر. وقرب الختام تتصاعد أصوات الآلات النحاسية فى نغمة قصيرة تتغير إيقاعاتها بين الكبيرة والقصيرة موحية برنين الأجراس.......
لقد قام سترافنسكي نفسه بمراجعة هذه المتتابعة عدة مرات كعادته حتى استقرت في نسختها المتداولة الآن سنة 1945 وهي من أوسع مؤلفاته الأوركسترالية انتشارا.
المصدر: هنا
لمشاهدة الباليه