الموسيقا > تعرف إلى موسيقيي العالم
جلين جولد
على الرغم من أن ازدهار عالم الموسيقى والفن كان دائماً مرتبطاً بظهور إبداعات ومواهب جديدة، إلا أن هذا العالم نفسه كان غالباً ما يرفض ويعاقب هذه الإبداعات الجديدة فقط لأنها "جديدة"، لقد كان أشبه بقوقعة مقفلة لا تقبل إلا الكلاسيكية والتقليدية.
ولكن ما يثير الاهتمام هو حالة التململ والتذمر التي سادت الأوساط الفنية في أواخر خمسينات القرن الماضي، حيث كان يصعب بل حتى يستحيل أحياناً التمييز بين عازفي بيانو تلك الحقبة، الكل يمتاز بالتقنية العالية ويؤدي المقطوعات باحتراف والتزام،ولكن أين هي الروح؟ "إنهم يعزفون كالآلات"، لا وجود للمزاج أو الحالة النفسية ولا حتى لشخصية الفنان نفسه، لقد قتل الإبداع!!
إلى أن ظهر فنان جديد، أدخل فن العزف على البيانو في مرحلة إبداعية جديدة، لقد ظهر محارباً التقنية الميكانيكية .
نجوى، همهمة وغناء.. هذا ما ميز جولد عن زملاء عصره، لقد أدخل عنصر"الروح" إلى عزف البيانو، فترك لروحه حرية التعبير والإبداع، فكانت تأدياته خيالية، ساحرة، مبدعة ومختلفة عن كل ما سمع و عزف من قبل.
ولد جلين جولد في 25 سبتمبر 1932 – تورنتو، كندا، لعائلة موسيقية الهوى، فأبوه كان عازف كمان هاوٍ، وأمه كانت تعزف البيانو والأرغن، وهي كانت معلمه الوحيد في العزف على البيانو حتى بلوغه سن العاشرة.
عندما بلغ جلين الصغير عامه الثالث بات واضحاً بأنه يملك موهبة موسيقية استثنائية فقد كان قادراً على قراءة النوتة، وفي الخامسة بدأ التأليف الموسيقي، حتى أنه كان يعزف مؤلفاته الخاصة لعائلته وأصدقائه!
في سن العاشرة بدأ جلين بأخذ الدروس في المعهد الملكي للموسيقى في تورنتو، فكان ألبرتو جيريو أستاذه للبيانو، ودرس الأرغن مع فريدريك سيلفستر، في سن ال 12 شارك في مهرجان كيونانيس السنوي للموسيقى وفاز بجائزة البيانو.
كان أول أداء علني لجولد عام 1945 على الأرغن حيث كان عنوان الحفل " فتى، في الثانية عشرة، يظهر عبقرية استثنائية في العزف على الأرغن"، بعدها بعام شارك كعازف منفرد مع الأوركسترا في أداء كونشيرتو البيانو الرابع لبيتهوفن، وفي العام التالي أدى جولد نفس الكونشيرتو مع فيلاهارمونيكا تورنتو، فكتب أحد النقاد " لقد جلس على البيانو طفل صغير أمام جمع من الأساتذة، وقد تكلم معهم كرجل يملك السلطة".
في مساء الحادي عشر من كانون الثاني عام 1955، سجل جولد أول ظهور له في نيويورك، حيث وقع في اليوم التالي عقد تسجيل مع شركة كولومبيا (CBS)
فكان أول تسجيل يقوم به جولد لتنويعات جولدبيريج (Goldberg Variations) ليوهان سبيستيان باخ في استوديوهات (CBS)،لقد حقق التسجيل أعلى نسبة مبيعات، أدى بعدها أكثر من 60 تسجيل في استوديوهات (CBS).
في 1957 بدأ جولد جولته الأوروبية لأول مرة، فأمضى أسبوعين في الاتحاد السوفييتي ليكون أول كندي يقوم بأداء موسيقي هناك، وفي جولته الأوروبية شارك جولد بأداء الكونشرتو الثالث للبيانو لبيتهوفن مع أوركسترا بيرلن والمايسترو هربرت فون كارايان، فأعجب جولد وكارايان كل منهما بأداء الآخر، وفي عام 1960 ظهر جولد لأول مرة على شاشة التلفزيون الأمريكي مع المايسترو ليونارد بيرنشتاين وأوركسترا نيويورك.
في 10 نيسان 1964 أعلن جلين جولد فجأة ومن دون أي ضجة عن آخر ظهور علني له كعازف بيانو، إن تقاعده المبكر هذا أرجع إلى أن حياة الموسيقيين الشاقة قد منعته من تحقيق مصالح كثيرة، في الواقع لم يكن جولد يعتبر نفسه كعازف بيانو في المقام الأول بل ملزم وبقدرٍ مساوٍ على الكتابة والبث الإذاعي والتأليف، لقد شعر جولد بكره عميق للأداء العلني وقد شعر بأنه محط للسخريةّ.
لقد وصف جولد بأنه ناسك ومتوحد، ولكنه لم يكن كذلك مطلقاً، لقد اختار لنفسه حياة منعزلة حتى يحافظ على مسافة آمنة تحميه من التفاعل الزائد مع البشر، لقد عرض فلسفته وجوهر هويته عن طريق تسجيلات "فكرة الشمال" التي كان يبثها، بالنسبة له فإن الشمال يمثل العزلة، الاستقلال، العقلانية،الشجاعة، الروحانية، قوة الشخصية، الالتزام بالقوانين، الاستقامة الأخلاقية، والسلام .
في عام 1981 و بعد 26 عام لتسجيله تنويعات جولدبيرج عاد إلى نفس الاستوديو في نيويورك ليقوم بنفس التسجيل مرة أخرى، لقد كان التسجيلان مختلفان للغاية بالنسبة لجولد حيث أصبح له رؤية مختلفة للتنويعات التي لم تعد متفرقة عن بعضها بل اعتبرها كياناً واحداً كاملاً له ضبط إيقاعي واحد متوائم مع ذاته و كأن التنويعات قطعة موسيقية واحدة .
قبل وفاته بعدة شهور، شكل جلين فرقة لأوركسترا الحجرة في تورنتو تتكون من بعض أعضاء أوركسترا تورنتو السمفونية، لقد كان فخوراً للغاية بمشاركته في تسجيل القصيد الرعوي " سيغفريد" لفاغنر، وهو العمل الذي كانت له مكانة خاصة عند جلين.
اجتمع عند جولد حشد كبير من أصدقائه الذين كانوا على اتصال دائم معه في تورنتو، لقد كان لطيفاً، ودوداً، مضحكاً، ساحراً و دافئاً في نظر أصحابه، لقد كان لجلين جولد شخصيته الانعزالية الخاصة به، لقد أراد أن يكون له دور المتفرج أكثر من دور اللاعب في مشاكل العالم المحيط به، إلا أنه ألهم وأنار حياة الكثيرين .
توفي جلين جولد في تورنتو في 4 أكتوبر 1982 بعد أن أصيب بجلطة، تاركاً خلفه إرثاً موسيقياً عظيماً.
نترككم لتستمتعوا ببعض ما اخترناه لكم من تسجيلاته:
تنويعات جولدبيرج (Goldberg Variations)نسخة عام 1981 :
مقطع من فيلم وثائقي يظهر فيه جولد وهو يؤدي لباخ بطريقته :
المصدر