الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة
موجز عن تاريخ الفلسفة: الفلسفة المعاصرة
دخلتِ الفلسفةُ الغربية دور أزمة عميقة عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين الميلادييَن، وتتمثل أعراض هذه الازمة في ظهور حركات فكرية تعارض مذهبين في الفكر الأوروبي الحديث؛ أي المذهب الميكانيكي الماديّ والمذهب الذاتي، ولا يقتصر هذا التغير على ميدان الفلسفة؛ بل يمتد إلى ما وراء هذا الميدان، ويمكن أن نقارنه مع الأزمة الكبيرة التي أنتجت في عصر النهضة الأوروبية الثقافة الأوروبية الحديثة كلها.
الواقعية الجديدة الإنكليزية:
برتراند راسل 1872-1970
فيلسوفٌ ورياضي إنكليزي، ولد من عائلة أرستقراطية وهو أحد أكثر الفلاسفة الغربيين الذي يقرأ الناس له ويعلق المفكرون على أعماله.
يرى رسل أن على الفلسفة أن تكون علمية في جوهرها؛ إذ يجب أن تستخرج -هي- أحكامَها من علوم الطبيعة وليس من الدين أو من الأخلاق، ولذلك يقتصر ميدان نشاط الفلسفة على المشكلات التي لم يصلِ العلم بعدُ إلى دراستها دراسة علمية، فهي تؤدي دور فاتح الطريق أمام العلم، ولم يعتقد رسل منذ البداية أن بإمكان الفلسفة تقديم إجابات مؤكدة كثيرة، لأن وظيفتها إثارة المشكلات لا أن تجد حلاً لها، فمهتها نقدية.
وكان رسل ناقداً أساساً لمذهبِ العلاقات الداخلية (الفكرة التي تقول إن كل شيء له علاقة -على نحوٍ ما- بكل شيء آخر، ولكي تعلم شيئاً محدداً عليك أن تعرف كل علاقاته)؛ فقد رأى راسل أن هذا المذهب سيجعل من الفضاء والوقت والعلم وغيرها مفهومات غير واضحة.
وأما عن الأخلاق والدين؛ في رأي رسل: ما الإنسان إلا جزء ضئيل من الطبيعة، وأفكاره تحددها العمليات التي يؤديها الدماغ؛ فهي إذن محكومة بقوانين الطبيعة، وأمّا العلم فهو المصدر الوحيد لمعرفتنا؛ إذ إنه لا يقدّم أيّ تأييد للاعتقاد في الألوهية أو في خلود النفس، وعقيدة الخلود في رأيه هي عقيدة سخيفة وغير معقولة؛ لأنه لو كانت النفوسُ خالدة لملأت كل المكان، والدين عنده يقوم على الخوف، وبذلك فهو شر.
الوضعية الجديدة:
لودفيج فتجنشتين 1889-1951
فيلسوف نمساوي؛ ولد في فيينا من أسرة ثرية عريقة في الثقافة، واشتهر بميوله الأدبية والفنية فكانت له جولاته في عالم الأدب.
يرى فتجنشتين أن معرفتنا هي نسخة من هذه الوقائع الفعلية، وأن الجمل العامة هي (دالات حقيقة) كلها للجمل الجزئية؛ أي إنها تتكون ابتداءً من هذه الجمل الجزئية عن طريق العلاقات المنطقية، وعلى ذلك؛ فإن طبيعة المنطق أنه تحصيل حاصل، إذ إنه لا يقول شيئاً عن الوقائع لأن الأحكام المنطقية فارغة من أي معنى، ولا تستطيع أن تعرِّفنا أيَّ معرفة عن عالم الواقع، إنما الذي يستطلع أحوال عالم الواقع هو العلوم الطبيعية، ونتيجة هذا كله؛ تجد أنّ الفلسفة لا يمكن أن تكون مذهباً يتكوّن من قضايا، وإنما هي لاتزيد عن أن تكون مجرّد نشاط.
وقدّم لودفيج نظرية في اللغة، وتقول هذه النظرية إنه لا يمكن منطقياً أن نتحّدث عن اللغة، وبذلك فإن التحليل المنطقي النحوي مستحيل، والمشكلات الفلسفية كلها تعود في نهاية الأمر إلى هذا النوع من التحليل؛ فإنها -أي تلك المشكلات الفلسفية- لا تزيد عن أن تكون مشكلات فارغة من المعنى ولا حل لها.
المادية الجدلية (الماركسية):
يرى الروس أن مؤسس المادية الجدلية هو الفيلسوف الألماني والاقتصادي كارل ماركس، ويرى المذهب المادي لماركس أن العالم المادي هو وحده العالم الحقيقي، وأن العقل ليس إلا نتاجَ عضو مادي هو الدماغ.
ويرى كذلك أن التعارض بين المادة والوعي لا قيمة له في نظرية المعرفة، وأمّا في نظرية الوجود؛ فلا يوجد أي شيء غير المادة، ويرى الماركسيون أن المادة في تحوّلٍ وتطوّرٍ دائمين، وبسبب هذا التطور؛ تتكون دوماً موجودات جديدة أكثر تعقيداً من سابقاتها: الذرات والجزيئات والخلايا الحية والنباتات والإنسان والمجتمعات.
ولا يوجد شيء ثابت؛ فالعالم كله وعناصره كلها فريسة التطور الجدلي، ويموت القديم وينشأ الجديد دائماً وفي كل مكان؛ فليس هناك من جواهر دائمة ولا مبادئ خالدة، والذي يبقى خالداً دائماً في الحركة الكونية هو المادة لكونها مادة لها قوانين وتحولات.
الفلسفة الوجودية:
أولًا: سورين كيركيجارد 1813-1855
فيلسوفٌ وعالمُ عقيدة دنماركي ولد في كوبنهاغن، يعدّ وجوديّاً من الطراز الأول، فقد دارت فلسفته كلها عن موضوعات الخطيئة والحرية والحبّ والزواج والندم والتفكير والغواية والمصير؛ ذلك لأنه عانى هذه المشكلات جميعاً معاناة عنيفةً حيّةً نابضةً، وكانت هذه المشكلات بالنسبة إليه مسائل حياة أو موت.
كان كيركيجارد يبحث عن الله ولم يكن يريد أن تكون بينه وبين المطلق واسطة من أي نوع، حتى لو كانت الكنيسة المسيحية نفسها، وكان يعتقد أن الاتصالَ بالله لا يكون بأن يبحث الإنسان عما هو عام ومشترك في نفسه مع الآخرين، ولكن على العكس من ذلك؛ وهو أن يتعمق في ما هو فرديٌّ متميّزٌ خاصٌّ في نفسه وفي هذا التعمقِ يكتشف الله الفرد، فمن التناقض أن يبحث الإنسان عن الوجود خارج نفسه.
وكانت رسالة كيركيجارد هي أن يعلّم الناس معنى الوجود الإنساني، ومهمة الفيلسوف هي استخراج العناصر الأساسية في الوجود الإنساني وهو ما يسميه كيركيجارد بالمقولات، وهذه المقولات هي: التفرّد والصيرورة والحرية والمثول أمام الله والخطيئة والقلق.
ثانيًا: فردريك نيتشه 1844-1900
فيلسوف ألمانيٌّ، اهتمّ بالأخلاق والميتافيزيقا والأنطولوجيا وفلسفة الجمال والتراجيديا.
وفلسفة نيتشه تُثبت في حرارة وإيمان أنّ الفكر والحياة متلازمان متضايفان؛ إذ لا وجود للواحد دون الآخر، فلا قيمة لفكرٍ إن لم يضرب بجذوره في أرض الحياة، ولا معنى للحياة إن لم يُعْمِل فيها الإنسان فكره حتى يتضح معناها.
وكان نيتشه يعتقد أن التماسك المذهبي والترابط المنطقي وهمٌ وعبثٌ في آنٍ معاً؛ فالحياة بما فيها من تغيّرٍ دائمٍ وتحوّلٍ غيرِ منقطعٍ من الشيء إلى نقيضه، لا يحقُّ لنا أن نحاول فهمها، ولا يحقُّ لنا أن نفرضَ عليها وجهةَ نظرٍ واحدةٍ لا تقبل التعديل أو التبديل.
أمّا الأخلاق؛ فقد أصبحت تطوراً تاريخياً لا نهاية له، ويضع نيتشه نوعين للأخلاق:
أخلاق العبيد مقابل أخلاق الإنسان الأعلى، وهي أخلاق كلها حرية وخلق جديد للقيم الأخلاقية.
وفكرة خلق القيم الجديدة موجودة في جميع الفلسفات الوجودية وكلٌّ من هذه الفلسفات يحاول ابتكارَ قيمٍ أخلاقيّةٍ جديدة.
وأخيراً؛ نرى أنّ الفلسفة المعاصرة كانت لها طريقةٌ مختلفة في فهم الوجود عن الفلسفات السابقة، فهي تنفي ما يطلق عليه الخطأ والصواب، وتحويل الأمر إلى مفهوم مستوى الكفاءة، وهذا الأمر يوضّح الجدليّة التي أثارها هيجل، والتي طُوِّرت كثيراً؛ إذ إنّ مفهومَ هذه الجدليّةَ قد نصّ على ما يلي: إنّ هناك مالا نهاية له من المفهومات التي بالإمكانِ التوصل إليها؛ إذ إنّ كل مفهومٍ يكونُ أكثر كفاءةً ممّا سبقه في الزمان، وتعتمد هذه الكفاءة على مدى الاستفادة من الاستنتاجات التي نتوصّلُ إليها من المفهوم لتفسير الظواهر الطبيعيّة أو طريقة التنبؤ بها، وأنّ الغاية من هذه الدراسة لا لمعرفة الواقع؛ بل لإيجاد الطريقة المثلى في التعامل مع المحيط الذي نقطن به على نحوٍ أكثر إيجابيّة.
المصادر:
1- عبد العزيز، كامل، فلاسفة وجوديون، كلية الأداب، جامعة دمشق، الطبعة السادسة، 2002.
2- بوشنكي، ترجمة عزت القرني، الفلسفة المعاصرة في أوروبا، المجلس الوطني للثقافة والفنون والأداب، الكويت، عالم المعرفة، 1978.