البيولوجيا والتطوّر > علم المورثات والوراثة
دليل على وراثة الـ دنا الميتوكوندري من كلا الأبوين وليس فقط من الأم!
الميتوكوندريا: عضيات خلوية مُهمة توجد في الخلية بأعداد كبيرة جدًّا وتُزوِّدها بالطاقة اللازمة لأداء وظائفها الحيوية؛ وذلك عن طريق تحويل الطاقة الكيميائية الموجودة في الغذاء إلى جزيئات كيميائية (هي جزيئات الأدينوزين الثلاثي الفوسفات ATP) يمكن للخلية استخدامها. وتملك الميتوكوندريا جينومَها الخاص الذي يسمى الـ دنا الميتوكوندري mtDNA، ولكنه أصغر بكثير من الجينوم الموجود في النواة. ولطالما اعتُقد عمومًا أن الميتوكوندريا والحمض النووي الموجود داخلها يورث حصرًا من الأم عند البشر؛ أي على عكس جينوم النواة الذي يوجد نسخة واحدة منه في الخلية ونرثه من الأبوين كليهما، فإن الجينوم الميتوكوندري يوجد بآلاف النسخ في الخلية ذات نمط وراثي واحد مطابق للنمط الوراثي للجينوم الميتوكوندري الخاص بالأم.
وفي دراسة جديدة نُشرت مؤخرًا أجريت باستخدام بيانات سلسلة الحمض النووي الميتوكوندري mtDNA؛ أثبت الباحثون حدوث توريث ثنائي الأبوين للـ دنا الميتوكوندري mtDNA عند 17 فردًا ينتمون إلى ثلاث عائلات مختلفة.
وأتى أول دليل على هذا الأمر عن طريق طبيب الأطفال والباحث في مجال الوراثة الطبية توشينغ هوانغ Taosheng Huang الذي عثر على الشخص الأول الحاصل على الـ دنا الميتوكوندري من والديه كليهما عن طريق الصدفة.
وعند معاينته مريضًا (وهو صبي يبلغ من العمر أربع سنوات) يُعاني بعضَ أعراض اضطراب ميتوكوندري؛ أرسل الطبيب عيِّنة من دمه إلى مختبر التشخيص في المستشفى لإجراء سلسلة للـ دنا الميتوكوندري mtDNA؛ وأظهرت النتائج أن الصبي لديه نمطين وراثيين من الجينوم الميتوكوندري mtDNA وكل منهما موجود بمستوى عال نسبيًّا.
واعتقد هوانغ بداية بحدوث خطأ ما في عملية إجراء التحليل فطلب من المريض العودة وأخذ عيِّنة دم جديدة بنفسه، ثم أرسل الدم إلى مختبر التشخيص ومختبر أبحاث داخلي ومختبر مستقلٍّ لإجراء سلسلة للجينوم الميتوكوندري؛ ورأى النتيجة نفسها تعود من المختبرات الثلاثة جميعها؛ عندها تأكد أن النتيجة حقيقية.
وبعد ذلك قدم أفراد العائلة جميعًا عيِّنات لإجراء سلسلة للـ دنا الميتوكوندري mtDNA، ووُجد أن كل من أمِّ المريض وجدِّه لأمه لهما النمط الوراثي نفسه من هذا التوريث الثنائي، ومن ثم عاد هوانغ وزملاؤه إلى قاعدة بيانات المرضى الخاصة بهم؛ فوجدوا عائلتين أُخريين أظهرتا الحالة نفسها.
وقد ظهر أن بعض الأطفال ممن امتلكوا جينومات ميتوكوندريا مختلطة قد ورثوا هذا المزيج من والدتهم فقط، ولم يمتلكوا أيًّا من الـ دنا الميتوكوندري الخاص بآبائهم؛ فعلى سبيل المثال: هذا الصبي ذو الأربعة أعوام لم يمتلك الـ دنا الميتوكوندري الخاص بوالديه كليهما؛ بل الـ دنا الميتوكوندري الخاصِّ بوالدته وأحد أجداده لأمه.
وظهر أن انتقال الحمض النووي الميتوكوندري من الرجال أصحاب الجينوم الميتوكوندري المختلط إلى أبنائهم هو صفة سائدة (مُهيمنة). ومع ذلك؛ ليس كلُّهم قادرون على تمرير هذه الجينومات المختلطة. ووفقًا لهوانغ؛ فإن الرجال الذين لديهم مجموعتان موروثتان من الـ دنا الميتوكوندري قد يُمرِّرون إحدى المجموعتين فقط إلى أطفالهم.
وبدا هذا دليلًا مقنعًا جدًّا على إمكانية انتقال الـ دنا الميتوكوندري من الأب إلى أبنائه لدى البشر، ولكن ليس من المعروف مدى انتشار هذه الظاهرة لأن سَلسَلَة الـ دنا الميتوكوندري mtDNA لا تجرى إلا عندما يُشتَبه بوجود مرض ميتوكوندري.
وبصرف النظر عن المرضى الذين جرت معاينتهم في بادئ الأمر وظهرت عليهم علامات المرض؛ فإن أفراد العائلة أصحاب مزيج الـ دنا الميتوكوندري المتوارث من الأم والأب يتمتعون بصحة جيدة.
وقد أعربت صوفي بريتون Sophie Breton عالمة الوراثة التطورية التي تدرس علم الوراثة في جينوم الميتوكوندريا عن إعجابها بالدراسة بقولها: "هذه دراسة مثيرة للاهتمام للغاية، وتُقدِّم أدلَّة قاطعة على إمكانية حدوث توريث الـ دنا الميتوكوندري mtDNA الثنائي الأبوين عند الإنسان، وعلى الرغم من أن تقنية السلسلة المستخدمة لإثبات هذه النتائج بسيطة؛ لكنها فعَّالة للغاية".
إن وراثة الـ دنا الميتوكوندري mtDNA عند الكائنات الحية ليست من جهة الأم دائمًا؛ إذ إن بعض النباتات والطحالب البحرية تكون فيها وراثة الحمض النووي الميتوكوندري حصريًّا من الأب، وتوجد أيضًا عند الفطريات والخمائر حالة الوراثة الثنائية الأبوين. ولكن في المملكة الحيوانية؛ تسود عمومًا وراثة الـ دنا الميتوكوندري mtDNA من الأم عدا بعض الحالات التي يصل فيها بعض الـ دنا الميتوكوندري الأبوي إلى الجنين وينتهي هناك، مثلما يحدث عند الفئران وذبابة الفاكهة. أما الاستثناءات الحيوانية الواضحة، هي الرخويات الثنائية المصراع التي ينتقل فيها الحمض النووي الميتوكوندري mtDNA من الأب إلى ذريته الذكور ولكن فقط في الغدد التناسلية.
إذ يُقضى عند الحيوانات على الـ دنا الميتوكوندري mtDNA الأبوي في الحيوانات المنوية أو الجنين المخصب؛ ففي ذبابة الفاكهة على سبيل المثال: حدد الباحثون مؤخرًّا إنزيمًا يُحطِّم الـ دنا الميتوكوندري mtDNA الأبوي في النطاف، وفي الربداء الرشيقة Caenorhabditis elegans يجري التخلص من الـ دنا الميتوكوندري mtDNA الأبوي مباشرة بعد الإخصاب.
(لمعرفة المزيد عن الموضوع هنا).
ويقترح كاتبو الدراسة أن انتقال الحمض النووي الميتوكوندري mtDNA الأبوي الذي كُشف عنه في هذه العائلات هو نتيجة طفرة في جينة نووية تقصي الجينات الأبوية الميتوكوندرية عند الإخصاب؛ أي إن هذه العائلات لديها عيوب في عملية القضاء على الـ دنا الميتوكوندري الأبوي بفعالية.
وأفصحوا عن رغبتهم في التعرف إلى عائلات جديدة تملك هذا النمط الوراثي أيضًا للبحث عن الجين النووي المسؤول.
على أية حال؛ يجب معرفة إن كانت ظاهرة الوراثة الثنائية منتشرة بكثرة، وإن كان حضور كلّ من دنا الأم والأب في ميتوكوندريا شخص ما قد سبَّب خللًا في وظيفتها أم لا.
إن فهم الآلية الجزيئية التي يحدث فيها هذا الانتقال المتحدّر من الوالدين سيؤدي إلى توسيع فَهمنا الأساسي لعملية الوراثة الميتوكوندرية، وقد يوفر نهجًا بديلًا يُمكِّننا من تقليل عواقب انتقال بعض الأمراض في جينوم الأم الميتوكوندري عند البشر.
المصادر:
1- هنا
2- هنا
3- هنا