العمارة والتشييد > عمارة سورية التاريخية
المشفى الجامعي الأقدم في المشرق.. البيمارستان النوري الكبير
يُعدُّ البيمارستان النوري بمثابة المشافي الجامعية اليوم؛ يُعالج فيه المرضى مجانًا تقريبًا، بالإضافة إلى إعداد وتدريس الطلاب ليكونوا أطباء، ويُعدُّ هذا البيمارستان أهم مشفى جامعي في الشرق واستمر دوره حتى أواخر القرن التاسع عشر، ويقع في دمشق في منطقة الحريقة جنوب غرب الجامع الأموي وشرق سوق الحميدية.
أمر ببنائه الملكُ العادل نور الدين الزنكي عام 1154 م شرطَ أن يكون وقفه مخصَّصًا للفقراء والمساكين، ويهدف بناؤه إلى "إقامة دورٍ للبائسين ومآوٍ للضعفاء وأصحاب العاهات والزَّمَانَات"[2] ، ونرى عن طريق ذلك الانعكاسَ المعماري الرحيم والإنساني في بناء البيمارستانات في العالم الإسلامي.
يمثِّل البناء نموذجًا معماريًّا فريدًا يعود إلى الفترة السلجوقية من ناحية المخطَّط والطراز، وقد تحوًّل سنة 1900 م إلى مدرسةٍ للبنات في عهد السلطان عبدالحميد، ثمَّ تحوَّل إلى مدرسةٍ تجاريةٍ حتى رُمِّم أخيرًا عام 1976 م وأصبح متحفَ الطب والعلوم عند العرب.
نص وقفي منقوش على الحجر في صدر الإيوان الشرقي.
أُرِّخَ المبنى بواسطة نصِّ التأسيس المنقوش في أربعة أسطر على طاولةٍ خاصةٍ من الرخام موجودة ضمن الإيوان الشرقي، ويتضمَّن النقش على هذا الحجر في صدر الإيوان الشرقي ما يلي:
بسملة.. هذا ما أمرَ بإتمام عمارته العبدُ الفقير إلى الله في سعة رحمته لا للخلود فيه بل للمقام به سدة الأجل المحصى و العمر المقدر المقضي وذلك سنة تسعٍ و أربعين و خمسمئة مولانا الملك العادل العالم العارف الزاهد المجاهد نور الدين ركن الإسلام و المسلمين أبو القسم محمود بن زنكي بن أقسنقر ناصر أمير المؤمنين.
مصدر الشرح: * البيمارستان النوري البيمارستان القيمري في مدينة دمشق-محمد صبحي الصباغ-الصفحة 39
التقسيم الوظيفي للبيمارستان:
يُعّرَف البيمارستان بمدخله الراقي، ومخطَّطه ذي الإيوانات الأربعة المتناظرة محوريًّا، ويتألف البيمارستان من فسحةٍ سماويةٍ كبيرةٍ ومستطيلةٍ باتجاهٍ شماليٍّ جنوبي، وتتوسطها بحرةٌ مركزيةٌ كبيرةٌ ذات حنايا ركنية داخلية، ويحدُّ الفسحة السماوية أربعةُ أيواناتٍ مغطَّاةٍ بقببٍ، وتوجد على جانبي كلِّ إيوان غرفتان بعضها مستطيل وبعضها مربع ومسقوفةٌ بالعقد المتقاطعة.
مسقط البيمارستان النوري.
العناصر المعمارية المميزة:
1- المدخل: ينفتح الباب في الواجهة الغربية على مصراعين خشبيين مصفَّحيين بالنحاس ومزخرفين بالمسامير النحاسية الموزعة على أشكالٍ هندسية، أمَّا الواجهةُ الداخلية للباب فتتكوَّن من خشبٍ منحوتٍ بزخارف نباتيَّةٍ زال معظمها ورُمِّمت حديثًا، وللباب ساكفٌ مؤلَّفٌ من حجرٍ واحدٍ منقولٍ من مبنىً رومانيٍّ قديم، وتعلو الباب زخارف جصيةٌ تتألَّف من صفِّ المحاريب ذات الأقواس، وصُمِّمَت من تسعة مداميك من المقرنصات التي تتَّخذُ شكلَ ورقةٍ مجوَّفة، وقد سُجِّلت هويةُ مصمِّم الباب في التاريخ أنهُ أبو الفضل الحارثي المعروف بالمهندس، وأظهر أبو الفضل؛ الطبيب في البيمارستان والحرفي الذي أبدع الباب تنوع الخبرة التي كان يتمتع بها العلماء في هذه الفترة.
المدخل الرئيسي للبيمارستان النوري.
الزخرفة الهندسية على باب المدخل الرئيسي
الزخرفة الجصية التي تعلو المدخل الرئيسي
2- تلي الباب غرفةٌ مربَّعةٌ طول ضلعها 5 م مزوَّدةٌ بإيوانين صغيرين، وتعلو الغرفة قبَّةٌ عاليةٌ تغطِّيها المقرنصات، وتتكون من اثني عشر صفًّا من المقرنصات التي تجعلها من النماذج الفريدة في سورية، وتطلُّ على الفناء الداخلي عن طريق بابٍ خشبيٍّ مصفَّحٍ بالنحاس و بإطاراتٍ نحاسيَّةٍ أيضًا.
3-الفناء الداخلي والعناصر النباتية: تتوسَّطُ البيمارستان باحةٌ سماويةٌ أطوالها 15*20 م، وتتوسَّطُها بحرةُ ماءٍ مستطيلة أطوالها 8.5*7 م، كانت تُمَدُّ بمياهٍ جاريةٍ عذبةٍ تصلُ من نهر بردى عن طريق شبكةِ إمدادِ المدينةِ القديمةِ المستخدمة آنذاك وهي مبنيَّةٌ من الحجر، وتتميَّزُ زواياها من الداخل بحنياتٍ نصف أسطوانية كعنصرٍ زخرفيٍّ شائعٍ في العهد السلجوقي والأيُّوبي.
الفناء الداخلي
قبة البيمارستان المقرنصة الحمراء من الآجر على الطراز الرافدي والمزودة بالزجاج الغامق
4- الإيوانات:
- الإيوان الغربي: يقعُ في نهاية بهو الدخول، ويعلوه عقدٌ مدبَّب وفي داخله زخارف من المقرنصات، وفي جداريه الجنوبي والشمالي بابان صغيران يؤديان إلى قاعتين مستطيلتين، ويعلو كلا البابين منورٌ مصنوعٌ من الجصِّ المزخرف بالخطوطِ المتداخلة والأشكالِ النجمية ومحاطٌ بإطارٍ من الأوراق النباتية.
الإيوان الغربي
الزخرفة على جدار الإيوان الغربي
- الإيوان الشرقي: خُصِّصَ لعقد الجلسات وإلقاء المحاضرات، وتتوضَّعُ في صدر الإيوان خزانتان جداريتان، وتزيِّن جدرانَ هذا الإيوان لوحاتٌ رخاميَّةٌ قديمةٌ كُتِبت عليها آياتٌ من القرآن الكريم بالإضافة إلى لوحةٍ جصيةٍ لزخرفةٍ نباتيةٍ دائرية.
الإيوان الشرقي
- الإيوان الجنوبي: يتميز بكسوته الرخامية وبمحرابه الرخامي المسطَّح والمزخرف، والذي يعلوه عقدٌ من الرخام الملون محمولٌ على عمودين مدمجين يعلوهما تاجان كورنثيان، وتملأُ الفراغَ بين عقدِ المحراب والمستطيل فسيفساء رخامية، وتحملُ الكسوة الرخامية شكلَ الزنبقة التي تمثِّل شعارَ نورِ الدين.
الإيوان الجنوبي
- الإيوان الشمالي: مشابهٌ للإيوان الغربي، ويُفتَح مثلَه على الصَّحنِ بعقدٍ مخموس.
بعضُ التفاصيل الداخلية لأهم العناصر الزخرفية.
لقطة داخلية لمقرنصات القبة
المقرنصات في سقف المحراب
نافذة حجرية مزخرفة بأشكال نجمية هندسية
زخرفة نباتية على الحجر في الإيوان الجنوبي
شكَّل البيمارستان النوري نقلةً نوعيةً في طريقة التفكير بعلاج المرضى عن طريق إضافةِ العيادات الخارجية وقاعات المحاضرات، وقدَّمت التفاصيلُ المعماريةُ المدروسةُ والفنيةُ والنسبُ الإنسانيةُ للفراغات والانفتاحُ نحو الفناء الداخلي فراغًا معماريًّا لطيفًا ومناسبًا لإقامة المرضى، ونجدُ أنَّ المداواة والعلاج في هذه الفراغات أكثرُ ملاءَمةً نفسيًّا من الفراغات الطبية الحديثة المكوَّنة من ممرَّاتٍ وغرفٍ صغيرة.
فما رأيكم؟ هل تظنُّون أنَّ مبنى البيمارستان ملائمٌ أكثر من فراغاتِنا الطبية المعاصرة؟
---------------------------------------------------------------------------------------------
[1]الحمصي، أحمد فائز. (1982). روائع العمارة العربية الإسلامية في سورية. دمشق: وزارة الأوقاف. 206.
[2] كرد علي،محمد. (1983). خطط الشام. دمشق: مكتبة النوري.156.
مصادر المقال:
الصباغ، محمد صبحي. (1988-1989). البيمارستان النوري -البيمارستان القيمري في مدينة دمشق. دمشق: جامعة دمشق -كلية الهندسة المعمارية.
بك، أحمد عيسى. (1981). تاريخ البيمارستانات في الإسلام. بيروت: دار الرائد العربي. 206-223.
الحمصي، أحمد فائز. (1982). روائع العمارة العربية الإسلامية في سورية. دمشق: وزارة الأوقاف. 206 -223.
كرد علي،محمد. (1983). خطط الشام. دمشق: مكتبة النوري. 156- 159.