البيولوجيا والتطوّر > كائناتٌ رهن تجاربنا
أهمية الرئيسيات غير البشرية بوصفها نماذج حيوية
لقد أدَّت البحوث التي تشمل استخدام الرئيسيات غير البشرية Nonhuman primates اختصارًا (NHPs) دورًا حيويًّا في العديد من التطورات العلمية والطبية في القرن الماضي.
تستخدم NHPs بسبب تشابهها مع البشر من النواحي الفيزيولوجية (وظائف الأعضاء) والتشريحية العصبية والتكاثر والتطور والإدراك والتعقيد الاجتماعي؛ إذ تجعل هذه التشابهات الشديدة جدًّا استخدامَ NHPs في البحوث الطبية الحيوية قرارًا مدروسًا.
1- أهمية الرئيسيات في الأبحاث العلمية:
صدر قرار في الولايات المتحدة الأمريكية بالإلغاء التدريجي لاستخدام الشمبانزي في الأبحاث الطبية الحيوية، وتعليق العمل في أحد المراكز البحثية المختصة بالرئيسيات؛ ما دعا الباحثون في هذا المجال لتقديم أسباب استخدام هذه الأنواع وضروراتها في مختلف مجالات البحث الطبي الحيوي؛ إذ تعدُّ رتبة الرئيسيات ضرورية جدًّا لتعزيز المعرفة الأساسية في مجال البحوث الطبية الحيوية والبيولوجية. ولكل نوع من هذه الرتبة إسهاماته الخاصة في مختلف فروع العلوم الحيوية والطبية لا تضاهيها أيٌّ من الأنواع الأخرى حتى فئران التجارب.
ومثال على ذلك: استبعاد الشمبانزي من دوائر البحوث، يجعل استخدامها نماذج بقصد زيادة فهمنا في مجالات مُهمَّة مثل التوحّد والتهاب الكبد من النمط (سي) أمرًا غير متاح البتَّة.
2- السياق التطوري ومدى ملاءمة النماذج للأهداف البحثية:
تستخدم الغالبية العظمى من البحوث في الطب الحيوي نماذجَ من القوارض؛ إذ تُشير إحصائيات حكومة الولايات المتحدة إلى أن قرابة 90٪ من الحيوانات المستخدَمة في الأبحاث هي الفئران والجرذان وأنواع أخرى من القوارض. في حين تُمثِّل NHPs نسبة 0.28% من مجموع الحيوانات المختبرية المستخدَمة في الأبحاث. يعتمد مدى ملاءمة النماذج الحيوانية المختلفة ليس فقط على نوع الأنموذج (السياق التطوري)؛ بل أيضًا على الطرائق التي تُستخدم بها هذه النماذج؛ إذ إن امتلاك الأنموذج خصائصَ سريرية وبيولوجية مشابهة لتلك الموجودة عند البشر قد لا يُعدُّ كافيًا، وإنما يستلزم الأمر امتلاكه استجابات سلوكية مشابهة أيضًا.
في حين لا تزال القوارض وستظلُّ نماذج قيِّمة للغاية في أبحاث الطب الحيوي؛ ولكنها لا تُحاكي دائمًا الاستجابات السلوكية والبيولوجية البشرية بدقًّة؛ إذ تُظهر المسافة التطورية بين القوارض والبشر -التي تُقدَّر بما يُقارب 87 مليون سنة- اختلافات مُهمَّة في الوظائف البيولوجية والسلوكية، ما قد يحدُّ من قيمة النتائج الفورية.
القرابة التطورية الموجودة بين NHPs والبشر يجعلها نماذج ممتازة لدراسة ظواهر بيولوجية مُعيَّنة؛ إذ إن التشابه الفيزيولوجي بين البشر وNHPs يعني أن هناك مصداقية أكبر للبيانات التي يُحصَل عليها من نماذج الرئيسيات مقارنة بالنماذج الحيوانية الأخرى (مثل ما في التكاثر والحمل والإدراك والشيخوخة المعرفية). ويعني هذا التشابه الفيزيولوجي أيضًا أنه يمكن باستخدام نماذج NHPs إيجاد إجابات لإشكاليات مُعيَّنة لا يمكن الإجابة عنها باستخدام الأنواع الأخرى من النماذج؛ مثل: الإيدز واضطرابات الرئة واستقلاب الدواء.
تستخدم قِرَدة العالم القديم (القرد الرايزيسي والبابون وسعدان الفرفت)، وقِرَدة العالم الجديد (الزاريس والسعدان السنجابي وقردة التيتي والكبوشاوات) نماذج في كثير من الأحيان. أما قِرَدة البروسيميان (السعالي البدائية) والقِرَدة العليا (كالشمبانزي) فهي أقلُّ استخدامًا.
في البحوث التي تستخدم فيها الـ NHPs؛ يدرس اختيارُ الأنواع بحرص كبير، آخذين بالحسبان: الاعتبارات السلوكية والبيولوجية والتطبيقية العملية وكذلك الرفق بالحيوان.
3- الاعتبارات الأخلاقية في استخدام الرئيسيات في البحث الطبي الحيوي:
إن قدرة جميع الحيوانات على الشعور بالألم واختبار الإجهاد تعني أن الباحثين مُلزمون أخلاقيًّا بإجراء الأبحاث بطريقة تُقلِّل من الآثار السلبية ولا تُسبِّب ضغوطًا أو معاناة دون داعٍ، وعلاوة على ذلك فإن قدرة الـ NHPs الإدراكية الكبيرة وسلوكها الاجتماعي المعقَّد يُثيران قضايا إضافية ترتبط بعقلانية استخدامها ومبرراته في البحوث الطبية الحيوية.
وقد جادل البعض بأن البشر أكثر ملاءمة للخضوع للأبحاث الطبية الحيوية من الرئيسيات غير البشرية والأفضل من الناحية الأخلاقية. والمنطق وراء هذا هو أنه على الرغم من أوجه التشابه بين البشر وNHPs؛ إلا أن هناك اختلافات بيولوجية صغيرة، ولكنها مُهمَّة.
لذلك لا يمكن الحصول على نتائج نهائية حاسمة عن طريق دراسة نماذج NHPs؛ وبهذا فإن الخيار الأفضل أخلاقيًّا هو إجراء التجربة على عدد محدود من البشر. قد يبدو هذا الموقف بديهيًّا لدرجة ما، ومع ذلك؛ ينبغي تذكر أنه من الضروري -بهدف حماية البشر- إجراء البحوث على الحيوانات أولًا.
ولكنَّ استخدام NHPs بدلًا من نماذج حيوانية أخرى يتطلَّب بالتأكيد دراسةً أخلاقيةً أكبر لتبرير التجربة. ويشمل التبرير مدى ملاءمة أنموذج الرئيسيات المستخدم للتجربة، إضافة إلى تكاليف البحث وفوائده المحتملة.
وما دام أن الاعتقاد السائد بأن حياة البشر أكثر قيمة من حياة الأسماك والطيور والفئران وحتى الرئيسيات؛ فإن بعض التجارب ستُجرى حتمًا على الحيوانات قبل تعريض البشر للمخاطر، وفي بعض الحالات يكون أفضل أنموذج حيواني هو NHPs.
4- نماذج الرئيسيات غير البشرية المستخدَمة حسب مجالات الأبحاث الطبية الحيوية:
نستعرض فيما يأتي أهم المجالات البحثية التي تستخدم فيها أنواع مختلفة من الرئيسيات غير البشرية نماذجَ حيوية، وهي التي سنعرضها لاحقًا في سلسلة من الألبومات:
1. نماذج الرئيسيات غير البشرية المستخدمة في مجال أبحاث تصلُّب الشرايين.
2. نماذج الرئيسيات غير البشرية المستخدمة في دراسة السلوكيات.
3. نماذج الرئيسيات غير البشرية المستخدمة في دراسة الإدراك واللغة.
4. نماذج الرئيسيات غير البشرية المستخدمة في دراسة الشيخوخة الإدراكية.
المصدر: