الفنون البصرية > فن المسرح

رائد الكوميديا الفرنسية في ذكرى وفاته موليير

"لا تتحدثوا معي بالفرنسية، تحدثوا معي بلغتي لغة موليير" - موليير

الاسم الأساسي لموليير هو: جان باتيست بوكلان Jean-Baptiste Poquelin؛ العبقري الفرنسي الذي ضج القرن السابع عشر بأعماله في المسرح، سواء في التمثيل الهزلي الذي صبغه موليير بصبغته الفريدة أو في الكتابة بوصفه أعظم كُتَّاب المسرح في فرنسا، وعلى الرغم من عدم تقبُّل السلطات الدينية والعلمانية له في البداية لكنه نجح في ابتكار أسلوبٍ ترفيهي مميز قائم على رؤيةٍ مزدوجة للمواقف بنظرة واقعيةٍ ووهمية في آن واحد، فقد توضحت معالم فنِّه في أدائه القائم على التهويل والمبالغة التي تتجاوز الواقع وتُظهر إبداعه، وتَجلَّى ذلك في روائعه الفنية: مدرسة الزوجات (L’École des femmes) والسيد البرجوازي (Le Bourgeois Gentilhomme) وتارتوف (Tartuffe) والعانس (Le Misanthrope).

تلقَّى في طفولته تعليمًا جيدًا بعد أن سجَّله والده في مدرسة  كليرمون ( Collège de Clermont)؛ حيث تدرَّب في هذه المدرسة العديد من الفرنسيين اللامعين، ومنهم الكاتب المسرحي فولتير، وعلى الرغم من رغبة والده بأن يرث موليير منصبه في القصر الملكي بوصفه مصمم أثاثٍ لكن موليير تمرَّد وكرَّس حياته للمسرح، وبدأ هنا مع تسعةٍ من ممثلي ذلك العصر بتأسيس منصةٍ للفنون الهزلية دُعيت باسم مسرح إليستر (illustre-Théâte)؛ ومن هنا أخذ اسمه المسرحي "موليير" أول مرة بتاريخ 28 يونيو من عام 1644، وسلَّم نفسه لثلاثين سنة قادمة من المسرح في باريس إلى مات فيه بعد أن بلغ 51 عامًا.

استطاعت الممثلة الموهوبة؛ مادلين بيجار إقناع موليير بإنشاء مسرح، لكنَّها لم تستطع إبقاء المشروع الحديث العهد مستمرًا، إذ أُرسِل موليير إلى السجن مرتين في عام 1645 بسبب الديون على المبنى والممتلكات وذلك بسبب العدد الضئيل لرواد المسرح في باريس في القرن السابع عشر، إضافةً إلى وجود مسرحين رئيسيين في باريس أساسًا، لذا كان يبدو أنَّ الاستمرار مستحيلٌ لشركةٍ صغيرة، لذلك؛ وبدايةً من أواخر عام 1645 وإلى مدةٍ لا تقل عن 13 عامًا، سعت الفرقة إلى التجول في المقاطعات في نانت في عام 1648، وفي تولوز عام 1649، وكانت في ليون على نحوٍ متقطعٍ من نهاية عام 1652 إلى صيف عام 1655، ومرةً ​​أخرى عام 1657 في مونبلييه ما بين عامي 1654 و1655، وفي بيزييه عام 1656، وبالطبع فقد كانت تفشل الفرقة في أعمالٍ وتنجح في أخرى.

وقد كان لهذه السنوات أهمية بالغة في مسيرة موليير، إذ كانت تدريبًا صارمًا على عمله الأخير بصفته مديرًا للممثلين وعلَّمته كيفية التعامل مع المؤلفين والزملاء والجمهور والسلطات، وإنَّ نجاحه السريع واستمراره على الرغم من المعارضة عندما عاد إلى باريس لاحقًا لا يمكن تفسيره دون هذه السنوات من التدريب، وأول مسرحيتان معروفتان له في هذا الوقت هما: المحن (L’Étourdi; ou, les contretemps) في ليون عام 1655، وشِجار الغرام (Le Dépit amoureux) التي عُرِضت في بيزييه عام 1656، وفُتح طريق الشهرة له بعد ظهر يوم 24 أكتوبر عام 1658؛ عندما قَدَّمت الشركة في غرفة الحراسة في اللوفر وعلى خشبة المسرح مسرحية نيكوميد بيير كورنيلي أمام الملك لويس الرابع عشر، وتابع بعد المسرحية بعروض ترفيهية أكسبته محبة الجمهور.

يُعدُّ موليير الآن واحدًا من أوائل "المؤلفين" الفرنسيين بالمعنى الحديث للكاتب الذي يتوخَّى اليقظة بشأن نجاحه التجاري، إضافةً إلى نجاح إرثِه الفني وكان هذا أحد أسباب عدم رضا لويس الرابع عشر والتي دفعته إلى أن يُخوِّل جان باتيست لولي بالإشراف على جميع الجوانب المادية للإنتاج الموسيقي في فرنسا، بما في ذلك مسرحيات موليير.

المسرحية الأولى لموليير في باريس؛ الثمينين (Les Précieuses) فهي تُركز على شابتين من المقاطعات تهتمان بالأناقة والمظاهر المادية على الرغم من افتقارهن إلى هذا الحس وقلة ذكائهن، فقد أراد هنا أن يُعبِّر عن الرغبة في أن تكون ما لست عليه، وهذا ما أعجب المجتمع النسائي المثقف لأنَّه يعبر عن إيمانهن بسخافة الأمور المادية أمام سعة الثقافة والذكاء، ومن مسرحياته في باريس؛ الأمير الغيور في فبراير عام 1661، وهو العمل البطولي الذي كان موليير يأمل فيه الكثير لكنَّه فشل، وقدَّم كذلك في عام 1662 مسرحية مدرسة النساء التي عدَّها النُّقاد تحفةً فنية على الرغم من الانتقادات الشديدة عليه، ومنذ ذلك الوقت بدأت مشاركة مسرح القصر الملكي مع الممثلين الإيطاليين؛ تعرض كل فرقةٍ ثلاث مسرحيات في الأسبوع وقد تعلَّم موليير الكثير عن الكوميديا الجسدية من المتخصصين الإيطاليين في الكوميديا، وكتب مسرحيات كُلِّف بها شخصيًّا مثل: الوقح (Les Impetinents at Vaux) في أغسطس عام 1661، والنسخة الأولى من الإنتاج المسرحي تارتوف (Tartuffe) في فرساي في عام 1664، وغيرهم الكثير.

أما عن حياته العائلية؛ فقد تزوج موليير من أرماند بيجار؛ ابنة مادلين وإيرل مودين عام 1662، لكنَّه لم يكن زواجًا سعيدًا، وحظي بثلاث بنات، تُوفِّي اثنتان منهما قبل وصولهما إلى سن الصبا.

يمكننا القول أنَّ شخصية موليير القتالية وإيمانه العميق بفنِّه دَفَعه ليكمل في ظروف لم تكن مشجعة، بعد أن واجه النقد العنيف على مسرحيته مدرسة النساء بسبب عدم فهم الناس أسلوبه الجديد، وتصاعد الهجوم بعد مسرحية تارتوف لكنَّه رد عليهم بترسيخ أساسات فنِّه الجديد بعد أن قدَّم أداءه الأسطوري في مسرحية مفاجأة فيرساي (L’Impromptu de Versailles)، وتعرَّض موليير باستمرار لمضايقات من قِبِل السلطات، ولا سيما الكنسية بسبب تحدي الأرثوذكسية الذي رأوه في مسرحياته.

في السنوات الأربعة عشر التي قضاها في باريس، كتب موليير 31 مسرحية من أصل 95 عُرضت على خشبة المسرح، ولكنه لم ينجُ من المرض الذي اشتد عليه نتيجة الهجوم الذي تلقَّاه من الكنيسة والشرطة وحَظْر بعض أعماله لئلا تُعرض، وكانت آخر أعماله مسرحية مريض الوهم (Le Malade imaginaire).

في عام 1673 وفي أثناء الأداء الرابع للمسرحية في 17 شباط؛ انهار موليير على خشبة المسرح ونُقِل إلى منزله في شارع ريتشيليو، وكونه لم يتخلَّ رسميًّا عن مهنة الممثل التي عُدَّت فضيحة في ذلك الوقت، فقد دُفن دون مراسم وبعد غروب الشمس في 21 شباط

عندما وصف فولتير -الكاتب المسرحي- موليير بأنَّه "الرسام الفرنسي"، اقترح مجموعة من المواقف الفرنسية الموجودة في المسرحيات التي تُشدد على جوانب عمله التي يميل الآخرون إلى تجاهلها؛ يجدر ذكر ثلاثة منها:

أولًا، تتخلل الشكليات جميع أعماله؛ فهو لا يعطي الواقعية أبدًا -الحياة كما هي- وحدها، ولكن يمزج دائمًا بين النمط والشكل والضوء والحركة والموسيقى والرقص والكلام.

ثانيًا اهتم الفرنسيون بالشِعر عوضًا عن الاهتمام بعلم النفس كغيرهم من الأجانب، فكان أخذهم للمسرحيات ليس بوصفها دراساتٍ عن الهوس الاجتماعي، بل كنماذج تحمل الخيال الإنساني برحلة ولا تدعه حتى تصل به إلى النقطة المراد بلوغها من العمل الفني.

ثالثًا وأخيرًا، التضمين الذي صُبِغت به أعمال موليير؛ البدء بشخصيات اجتماعية ثم تجريدها لتعود إلى طبيعتها الإنسانية الأساسية.

المصادر : 

1-  هنا

2-  هنا