الموسيقا > موسيقيون وفنانون سوريون وعرب
راؤول فيتالي
لا أذكر أين قرأت تلك العبارة القائلة: "لا تُكرّموا الرّجُل الكبير..بل خُذوا منه و هكذا تكرّموه". لكنّها أول ما تبادر إلى ذهني بمجرد سماع أول تدوين موسيقي معروف في العالم . ذلك الشعور المُلِح بالامتنانِ العميق لأجدادي اللّذين لم يكتفوا باختراع الحرف، بل كذلك أبدعوا في التعبير موسيقيّا . الامتنان الأكبر لهذا الشخص الّذي قام بترجمة الإشارات المحفورة على رقيّم طيني جاء من أزمنة غابرة إلى نوتة موسيقية كاملة حقيقية وتكريم هؤلاء يكون بمشاركه إنجازاتهم والإضاءة على حياتهم، هذا ما سنحاول فعله هنا ..وإن كان الحديث عنه قد اُختصِر بمقال متواضع وصغير .
قد يبقى الرّقيم الطّيني مجرّد حجر لا معنى له، تقادمت عليه السنين لولا أن يأتي أحدهم مدفوعاً بشغفه وحبّه للموسيقى ليعمل جاهداً على ترجمة ما كُتِب عليه وهذا ما حصل في العام 1979 دخل العالم السوريّ راؤول فيتالي إلى حفل قصر البلدية في اللاذقية والمُقام بمناسبة الاحتفال باليوبيّل الذهبي لاكتشاف أوغاريت ليدهش الحاضرين من علماء تاريخ وآثار سوريين وأجانب بلحن الترتيلة الأوغاريتية التي فكّ رموزها و عزفها على البيانو زميله الموسيقيّ " زياد عجّان" أمام الحاضرين ليكون ذلك العام شاهداً على سماع أقدم مقطوعة موسيقية كاملة معروفة في العالم .
المواطن السوري المولود في الّلاذقية 1928 لم يكتفي باختصاصه الأكاديمي "بكالوريوس في الفيزياء من الجامعة الأمريكية في بيروت" بل كان ولعه الموسيقي منذ طفولته هاجساً له .
مِن هنا أصبحت ثقافته الموسيقية المُبهرة ميدانه المفضّل ،حيث درس الموسيقى من ناحية علمية و اهتم بالموسيقى كإحدى فروع علم الفيزياء . بعد عامين ألحق البكالوريوس بماجستير و أقام في بيروت حتّى اندلاع الحرب الأهلية الّلبنانية ليعود بعدها إلى مسقط رأسه وحلمه أيضاً ولتبدأ القصة في عام 1957 حين تمَّ اكتشاف 36 رقيّم في منطقة أوغاريت اتّضح بعد حين احتواؤها على أقدم تنويط موسيقي مُكتشف . الرّقيم الذي فكّ رموزه العالم السوريّ و الذي يتم الإشارة له بالرمز H-6 هو أحد أكمل الألواح الطينية (أكثرها وضوحاً وشمولاً) المُكتشفة بين الرُّقم والكتابة الّتي عليه مؤلّفة من قسمين: علوي وسفلي . القسم العلوي مكتوب على أربعة أسطر على وجه الرقيّم،عندما يصل السطر إلى وجه الرقيم يلتف حوله ويستمر على ظهر الرقيّم أيضاً (كُتب على كِلا الوجهين) .الوجه الأول وُجِد عليه نص شعري مكتوب بالّلغة الحورية (إحدى الّلهجات الأوغاريتية) و الوجه الآخر مجموعة من الأشكال خلال بحث العالم تبين أن الأشكال المتكرّرة هي سبعة مقاطع موسيقية ليست إلّا السلّم الموسيقي . النص الموجود على ظهر الرّقيم عبارة عن نشيد ديني للإلهة "نيكال"إلهة القمر، تعذّرت ترجمته بالكامل لأن اللّغة الحورية غير مكتشفة بالكامل، أما ما تمّ ترجمته من الكلمات كان على الشكل الآتي : (هذا غِناء على نيد قبلي نشيد الآلهة دوّنه أمورابي )، و”نيد قبلي” ليس إلّا مقام موسيقي بحسب الدّراسات عن الرّقم المُكتشفة في بلاد ما بين الرافدين . الاكتشاف الذي تُوّج في عام 1979 كان نتيجة رحلة طويلة شاقّة لكن ممتعة للباحث العاشق للموسيقى أوّلاً و لبلده وأوغاريت ثانياً ، ويأتي قول راؤؤل تأكيد على ذلك حين ذكر بِأن " أهل اللاذقية هم الأقدر على استيعاب اللغة الأوغاريتية، وفك رموزها، لقربها من لهجتهم المحكيّة وهو ما فعله ابن اللاذقية فعلا". رحلة الاكتشاف بدأت بِمساهمته الكبرى في إعادة ترتيب السلّم الموسيقي البابلي الذي حيّر العلماء طويلاً والذي كان يكمن كعقبة في حل عديد من الرّقم . يقول كتاب "A Hurrian Musical Score from Ugarit" لمؤلفه الموسيقي "Marcelle duchesne-guillemin" كانت المشكلة التي واجهتنا تكمن في أمرين : الأولى طريقة العزف المُفترضة على السلم الموسيقي البابلي الذي لا يعرف مدى قُربه أو بعده عن السلم الموسيقي الحديث، والثاني زمن النّغمات وفواصل الصمت بين النّغمات إضافة إلى المقدمة والخاتمة" . هنا كانت براعة راؤول فيتالي حيث درس أوّلاً السّلالم الموسيقية البابلية الّتي تم اكتشافها في أربعة ألواح طينية و الّتي عُثِر عليها في العراق (بلاد ما بين الرافدين)، ومن خلال تحليل معاني الدرجات الموسيقية استنتج أن ترتيبها هو معاكس لما كان مسلّم به قبلاً، واستطاع بناءً على هذا الاستنتاج أن يحدّد جميع أبعاد السّلالم الموسيقية البابلية في بلاد ما بين الرافدين بدقّة عالية، وهو أوّل من استطاع أن يصل لهذا التحديد الدقيق، واعترف له بسبق هذا الاستنتاج وصحّته وقبوله بين العلماء . بعدها قدّم راؤول قراءته الخاصة الكاملة للتدوين الموسيقي فكانت النتيجة قطعة موسيقية ساحرة وتُعد قراءته هي القراءة الوحيدة حتّى الآن الكاملة والمفصّلة والتي تقدم تفسيراً لكل الكلمات الواردة في الرقيم H-6 وبشكل متوافق تماماً مع نص النشيد بدون وضع افتراضات معقّدة لا تستند على أساس، والنتيجة الموسيقية جيدة جداً .
لأن الشغف يدفع بصاحبه إلى المزيد لم يكتفي راؤول بل تابع أبحاثه التي يجدر الإشارة إلى أنّها تختلف عن أبحاث العلماء الآخرين من ناحية أن راؤول لا يعتمد على النسخ أو إعادة الصياغة، بل يستند إلى ما قام به الآخرون من تجارب، وما وصلوا إليه من نتائج يقوم بتحليلها، ويستنتج من خِلالها. كما يحسب له العالم مساهمته مع باحثين آخرين في ترجمة ملحمة (أقهارت) التي تعدّ بمثابة ملحمة الخلق الأوغاريتية. يجد المرء صعوبة في وضع العالم راؤول فيتالي تحت تصنيف معين حين يطالع أبحاثه و محاضراته لتنوع مجالاتها واختلافها في الموسيقى والتاريخ والرياضيات والفيزياء .. الثقافة الموسوعية التي امتلكها جعلته يحاضر في عناوين عديدة أذكر منها: بدايات الموسيقى – شعب بني يمين – الكنعانيون – علاقة الدين بالموسيقى في أيام أوغاريت – علماء الموسيقى العرب - العرب في سوريا قبل الإسلام - التناظر الشكلي وترتيب الأحرف الأوغاريتية - الرقم عبر التاريخ و اختراع وتطور كتابة الأعداد - ساميون أم لا - أوغاريت لا كنعانية ولا فينيقية .
في العام الماضي 2013 كانت الذكرى العاشرة لرحيل العالم الباحث راؤول فيتالي الذي فارقنا الجسد في 29 أيلول 2003 ..أما الروح فهي مع كل نوتة مع نوتات موسيقى أوغاريت الخالدة .
راؤول فيتالي ..قامة عملاقة من بلادي .
المصادر :
*مدوّنة رامي راؤول فيتالي : هنا
* الكتاب : هنا
*مقالات تشير إلى أسبقية العالم راؤول فيتالي في الاكتشاف: هنا
أبحاث العالم منشورة في كل ّمن :
La tablette musical H-6. Archeologiques Arabe Syriennes 29 - 30 (1979 - 1980)
La Musique suméro-accadienne: gamme et notation musicale. Ugarit-Forschungen 14 (1982): 241–63.
للاستماع إلى لحن أنشودة العبادة الأوغاريتية بأداء العازفة الفرنسية تيريز مونلوو- عضو بعثة التنقيب :