كتاب > مفكرون وكتّاب
ذكرى ولادة الشِّعر الذي لا يَفنى ولا يُنفى (الشِّعر الدرويشي)
شاعرُ الجُّرحِ الفلسطينيِّ، من قال "سنكونُ يومًا ما نُريد"، من سَجننا في سحرِ مدرستهِ الدرويشيَّة وأسقانا طعم الشِّعرِ كما لم نذقهُ من قبل، روحٌ وقَفت البندقيةُ بينها وبينَ حنينهِ للوطن، فعاشَ في عالمِ الشِّعرِ يخطُّ قصائدهُ لتُغنَّى وتُخلَّد في أزقة الذاكرة، ومن لا يَعلمُ من قائل "لو عرفت أشجارُ الزيتون الأيادي التي زرعتها لأصبح زيتها دمعًا".
محمود درويش، شاعرٌ فلسطينيٌّ وُلدَ في 13 آذار/ مارس عام 1941، في قريةِ البروة الفلسطينيَّة، يُعدُّ درويش من أبرزِ شعراءِ المقاومة، وقد أسهمَ بطريقتهِ الاستثنائيَّة بتطويرِ الشِّعرِ العربيِّ لاكتسابهِ قوَّةً رمزيةً تترافقُ مع لحنٍ يُحيي الشَّغفَ من جديد، أتمَّ درويش تعليمه في قرية دير الأسد في الجليل قبل أن تجرَّهُم أهوال الحرب للرحيل من وطنهم نحو جنوب لبنان عام 1947، لكنَّهُ عاد فيما بعد إلى الجليل، إذ عُرِف مثل الكثيرين على أنَّهُ حاضرٌ بجسدهِ غائبٌ بهويتهِ.
أكمل درويش دراسته الثانوية في حيفا لينضمَّ إلى العمل في الصحافة مُترجمًا ومحررًا في صحيفة الاتحاد ومجلة الجديد، وترقى بعد ذلك إلى رئيسِ تحريرِ المجلة، وشغل منصب رئيس رابطة الكتاب والصحفيين الفلسطينيين وحرَّر مجلة الكرمل أيضًا، وفي الفترة التي عاش بها في بيروت عمِل رئيسًا لتحرير مجلة شؤون الفلسطينيّين.
لم يعترف درويش يومًا بهويةٍ غيرَ هويتهِ الفلسطينيَّة؛ بل كان رمزًا أدبيًا وثوريًّا للمقاومة:
"سأصيرُ يومًا ما أريدُ
سأصيرُ يومًا كرمة
فليعتصرني الصيف منذ الآن
وليشرب نبيذي العابرون على
ثريات المكان السكّريّ
أنا الرسالة والرسولُ
أنا العناوينُ الصغيرةَ والبريدُ"
اعتُقل درويش مراتٍ عدَّة تبعًا لآرائه االسياسية المعادية للاحتلالِ الإسرائيليّ، وفُرضِت عليهِ الإقامة الجبرية حتى عام 1970أيضًا، وقد حاولَ السفر إلى باريس محاولةً أولى ولكنَّ هويتهُ المسروقة وقفَت في طريقهِ أيضًا؛ فرفضت السلطات الفرنسية دخوله لأنه غير مُحدَّد الجنسية؛ لكنه حاول فيما بعد السفر إلى موسكو ونجح بذلك ليبدأ دراسته في العلوم الاجتماعية، ولم يطلِ الأمر حتى انتقل إلى محطته الثانية القاهرة، وعاشَ بها عاشقًا لنصوصها الأدبية وشُعرائها حتى انتقلَ إلى ورشةِ أعمالهِ الأدبية بيروت، إذ بدأ بصياغة تياره الفكريِّ والسياسيِّ والأدبيِّ الذي تأثَّر بوضوحٍ باندلاعِ الحربِ الأهلية في لبنان، وافتقد أعزَّ أصدقائه "غسان كنفاني"، وقضى درويش أيامًا عصبيةً في بيروت حتى قرَّرَ من جديد أن يحملَ أثقال الوطن وقصائد الرثاء نحو محطةٍ أُخرى، وبعدَ ذلك استقر في باريس مدة عشرِ سنوات، ويصف تلك المحطة أنها ولادته الشعرية الحقيقية فقد كان يرى الأوطان من عينٍ بعيدةٍ تمتلئ بالحنينِ نحو الوطن:
"قصائدنا بلا لون بلا طعم بلا صوت
إذ لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت
وإن لم يفهم البسطاء معانيها
فأولى أن نذريها
ونخلد نحن للصمت"
بدأ درويش موهبتهُ الشِّعريَّة في سنٍّ صغيرةٍ، فلم يلبث حتى نبتت القصائدُ من رحم تأثُّره بحب الوطن وافتقادِ الهوية، كان يميلُ إلى الشِّعرِ الرومنسيِّ مُقتديًّا بالشُّعراء مثل نزار قبّاني، ولكنَّ درويش امتلك بصمتهُ الخاصة في الشِّعرِ العربيِّ المُعاصر، واستخدمَ صورةً مجازيةً دائمًا في شعرهِ وبتطورٍ مُستمرٍ حتى أسدلَ الستارُ عن عينيهِ وفارقَ الحياة؛ فاستخدم التاريخ والأسطورة والأدب والدين والحضارة ليرسُمَ لوحتهُ الأدبية في ثلاثين ديوان شعر ونثر وثمانية كُتب.
حصدَ شعرُ درويش كثيرًا من الجوائز مثل جائزة البحر المتوسط 1980، ودرع الثورة الفلسطينية عام 1981، ولوحة أوربا للشعر عام 1981، وقد حصل على جائزة الآداب من وزارة الثقافة الفرنسية عام 1997، إضافة إلى جوائزَ عدَّة في مختلِف البُلدان.
درويش وريتا، صاحبةُ العيونِ العسلية، من جمعهم الحُب وفرقتهم بندقية فقال:
"وأنا ضعت بريتا .. سنتينِ.
وهي نامت فوق زندي سنتين
وتعاهدنا على أجمل كأس ، واحترقنا
في نبيذ الشفتين
وولدنا مرتين!"
هو الحبُّ لا غيره من غزا قلب درويش وريتا وتعلَّى عن كلِّ القوميات والأديان؛ فيصعبُ ترويضهُ، ريتا هي فتاةٌ يهوديَّةٌ عشقها درويش فحكى حكايتها بالشِّعرِ وقال "بينَ ريتا وعيوني بندقية" ليرويَ ملاحقة عيونِ ريتا له في لياليهِ الشِّعريَّة، إلى أن وضعت الحربُ أثقالها على قلوبهم ورحلَ كُلٌّ منهم في طريقه.
وفاة محمود درويش
غادرنا درويش بعدَ رحلته إلى مدينة هيوستن، مركز تكساس الطبي في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ليجريَ عملية القلب المفتوحة، فدخل بعدها في غيبوبة جعلت الأطباء هناك ينزِعون أجهزة الإنعاش كما كان قد وصَّاهم ليتوفى يوم السبت التاسع من آب/ أغسطس عام 2008، وليعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس الحداد ثلاثة أيام حزنًا على "شاعر فلسطين"، عاد جثمانه إلى الوطن "رام الله" في 13 آب/ أغسطس، ودُفن في قصر رام الله وأعيد تسميته ليكون "قصر محمود درويش للثقافة"، ولكنَّ روحه لا تَفنى ولا تُفنى ما دام الأدبُ والشِّعر يُقدِّر تاريخَ العُظماء اللذينَ عاشوا سجناء أنفسهم والحنين.
"أيها الحاضر تحملنا قليلًا ... فلسنا سوى عابري سبيل ثقلاء الظل!"
المصدر: هنا