الرياضيات > الرياضيات
نظام تحديد المواقع العالمي GPS
كيف وصلت إلى العمل اليوم؟ خططت رحلتي على هاتفي بواسطة تطبيق يستخدم معلومات حركة المرور والبيانات المباشرة، بَدءًا من محطة الحافلة. في أيام أخرى؛ ربما أقود سيارتي متابعًا إرشادات هذا التطبيق، أما إذا كان الجو مشمسًا؛ فسوف أمشي على قدميَّ متتبعًا النقطة الزرقاء لموقعي على الخريطة التي يُظهرها التطبيق على هاتفي.
ما سبق مجرد مثال بسيط عن تأثير نظام تحديد المواقع العالمي -GPS- على حياتنا اليومية؛ إذ تُشير التقديرات إلى أن 4 مليارات شخص يستخدمون هذه التقنية في أنحاء العالم؛ الأمر الذي أحدث ثورة في العديد من مجالات الحياة، كالملاحة والإغاثة من الكوارث ومراقبة المناخ والزراعة والصناعة.
وجدير أن نذكر هنا أنَّ جائزة الملكة إليزابيث للهندسة عام 2019 -التي تبلغ قيمتها مليون جنيه إسترليني- مُنحت للمهندسين برادفورد باركنسون (Bradford Parkinson) وجيمس سبيلكير (James Spilker) وهوغو فرويهاوف (Hugo Fruehauf) وريتشارد شوارتز (Richard Schwartz)؛ لمساهماتهم الأساسية في إنشاء نظام GPS.
المهندسون الذين حصلوا على جائزة الملكة إليزابيث للهندسة عام 2019
أين أنا؟
يُجيب عن هذا السؤال نظام تحديد المواقع العالمي اعتمادًا على شبكة تضم ما لا يقل عن 24 قمرًا صناعيًّا تدور حول الكرة الأرضية -يوجد حاليًّا 32 قمرًا صناعيًّا، ولكن العدد الدقيق يختلف حسب الموقع- تدور الأقمار بطريقة يكون فيها على الأقل أربعة أقمار صناعية لنظام تحديد المواقع في أي وقت وفي أي مكان في العالم، ويمكن التنبؤ بدقة بمدارات هذه الأقمار الصناعية ومعرفة موقعها بدقة في أي وقت.
تبثُّ هذه الأقمار الصناعية الرسائل باستمرار؛ مما يعطي الوقت ومكان القمر الصناعي عند إرسال الرسالة؛ إذ تستمع أجهزة استقبال GPS -مثل تلك الموجودة في هاتفك- لهذه الرسائل، وتحسب الوقت الذي استغرقته الرسالة في السفر من القمر الصناعي إليك، باستخدام المعادلة المألوفة:
المسافة المقطوعة = السرعة × الوقت
وحقيقة أن الرسالة كانت إشارة لاسلكية تسير بسرعة الضوء (نحو 300 ألف كيلو متر في الثانية)، تُمكِّن هاتفك من حساب المسافة التي تفصل موقعه عن القمر الصناعي؛ فإذا استغرقت الرسالة 0.06 ثانية للوصول إليه؛ فالمسافة التي تفصله عن موقع القمر الصناعي هي:
يعرف هاتفك -بواسطة هذه المعلومات- أنك في مكان ما على نطاق كروي يبلغ نصف قطره 18,000 كيلو متر، مركّزًا على موقع القمر الصناعي عند إرسال الرسالة.
هذا النطاق الكروي كبير جدًّا؛ لذلك -ولتضييق نطاق الموقع أكثر- يستقبل هاتفك رسائل قمَرَين آخرين من الأقمار الصناعية (تذكر أن هناك ما لا يقل عن أربعة من الأقمار في أية لحظة، وينفذ حساب مماثل لكل منها).
التطبيق الآن يعرف أنه في ثلاثة مجالات مختلفة لثلاثة تحديدات؛ كل منها لقمر صناعي واحد. وعمومًا؛ يتقاطع مجالان من المجالات الثلاثة التي حددتها الأقمار الثلاثة في دائرة، ويتقاطع المجال الثالث مع تلك الدائرة في نقطتين. ولما كانت هناك نقطة واحدة فقط من هاتين النقطتين على الأرض؛ فإن ثلاثة أقمار صناعية كافية لتحديد موقعك. لكنَّ وجود أربعة أقمار صناعية يسمح بتصحيح الأخطاء ويجعل النظام أكثر قوةً.
إن الرياضيات هي أساس نظام تحديد المواقع؛ إذ يُعدُّ فكرة هندسية، ولكن جعل ذلك يحدث على نحو موثوق ودقيق وبتكلفة معقولة في الحياة الحقيقية كان إنجازًا رائعًا.
قاد «باركنسون» مشروع NAVSTAR للقوات الجوية الأمريكية التي طورت وصممت واختبرت المكونات الرئيسة لنظام تحديد المواقع.
صمم «سبيلكير» الإشارة التي تبثُّها الأقمار الصناعية، واستطاع التغلب على مشكلات تداخل عدة إشارات لأقمار تبثُّ على التردد نفسه.
وقد صمم فريق سبيلكير أول جهاز استقبال GPS، وطوَّر العمليات التي تعدُّ ضرورية لدقة GPS في الوقت الحالي، وكان «شوارتز» مسؤولًا عن تصميم الأقمار الصناعية القوية بما يكفي لتحمل الإشعاع وغيره من منافسي التشغيل في الفضاء على مدى عدد من السنوات.
أخيرًا؛ يجب أن تكون التوقيتات المتضمنة في حسابات GPS دقيقة للغاية، أما «فرويهاوف» فقد قاد الفريق لتطوير الساعات الذرية المصغرة وذات العزم الإشعاعي، وهي التي تؤدي دورًا محوريًّا في تشغيل الأقمار الصناعية لنظام تحديد المواقع العالمي. هذه الساعات الذرية دقيقة على نحو لا يصدق، وتكتسب أو تفقد أقل من ميكروثانية في قرن.
إن تحدي التشغيل الناجح اليومي لنظام تحديد المواقع يأتي من منطقة من الفيزياء قد لا تتوقعها، إنها نظريات أينشتاين الخاصة والعامة للنسبية؛ إذ توضِّح نظرية أينشتاين النسبية الخاصة أن الوقت نسبي: يمر الوقت ببطء أكثر لشخص يسافر بسرعة أكبر فيما يخصنا نحن النشر، وتجمع نظريته النسبية العامة بين الفضاء والزمان في نسيج ثلاثي الأبعاد للكون يسمى الزمكان؛ فزمن الفضاء هو مشوه ومثبط بالكتلة، وهذا الانحناء للفضاء يعني أن الوقت قد تمدَّد إلى مسافة قريبة من كتلة كبيرة من الساعات بسرعة أقرب إلى كتلة كبيرة من تلك الموجودة بعيدًا.
من المدهش أن هذين المفهومين لهما تأثير في حياتنا اليومية؛ إذ تسافر الأقمار الصناعية بنظام تحديد المواقع العالمي بسرعة تصل إلى 14000 كيلو متر في الساعة فيما يخصنا نحن على الأرض. وبهذه السرعة تعمل ساعات العمل الخاصة بها نحو 7 ميكروثانية في اليوم أبطأ من تلك الموجودة هنا على الأرض. ويُقابل ذلك جزئيًّا حقيقة أن الزمكان الزمني قد خُرب بسبب كتلة الأرض؛ مما تسبَّب بتشغيل الساعات على الأرض بمقدار 45 ميكروثانية في اليوم أبطأ من تلك الموجودة على القمر الصناعي الذي يدور على ارتفاع 20 ألف كيلو متر فوقها.
هذه التأثيرات النسبية مجتمعة تعني أن الساعات على القمر الصناعي ستعمل 38 ميكروثانية في اليوم أسرع من تلك الموجودة هنا على الأرض، فإذا لم يُعالَج هذا الأمر فذلك يعني أن موقعك على النحو المحدد من نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) سيكون خاطئًا بمقدار 10 كيلو مترات بعد يوم واحد فقط!
صمم «فرويهاوف» الساعات الذرية على الأقمار الصناعية وهي دقيقة بصورة كبيرة، ولكنها مُصمَّمة خصوصًا لوضع علامة أبطأ لمقاومة هذه التأثيرات النسبية؛ إذ إن الوقت الذي يحتفظ به في أثناء الدوران حول الأرض يتطابق تمامًا مع وقت الساعات على الأرض؛ لذا في المرة المقبلة التي تعتمد فيها على هذه النقطة الزرقاء على الخريطة على هاتفك، تذكر أنه بفضل الهندسة والنسبية وبعض المهندسين المذهلين الذين يقودهم باركنسون وسبيليكر وفرويهاوف وشوارتز؛ فإن النقطة تعرف أين أنت!
المصدر: