البحث العلمي والمنهجية العلمية > الطب المسند بالدليل
الطب المُسنَد بالدليل (Evidence-Based Medicine)
يعود تاريخ هذا النوع من الحركات الطبية إلى عام 1981م عندما نَشرت -أول مرة- مجموعةٌ من علماء الأوبئة السريرية في جامعة ماك ماستر الكندية (Mc Master University) أولَ سلسلة طبية في مجلة الجمعية الطبية الكندية (Canadian Medical Association Journal)؛ والتي قدَّموا فيها مشورةً عن كيفية تقييم الأدبيات الطبية، لكن صِيْغ مصطلح "الطب المسند بالدليل" أول مرة من قِبل جوردن غايت (Gordon Guyatt) والذي كان يشْغَل آنذاك منصبَ مدير برامج الطب الباطني في جامعة ماك ماستر من عام 1990م حتى 1997م.
وقبيل ذلك؛ كانت مستويات الأدلة تُقدَّم من قبل فرقة العمل الكندية المعنيَّة بالفحوصات الصحية الدورية (Canadian Task Force on Periodic Health Examination).
إذًا، يمكن أن يُعبَّر عن الطب المُستنِد إلى البراهين (Evidence Based Medicine) بأنَّه الاستخدام الحكيم لأفضل الأدلة المتوفِّرة لاتخاذ قرار معيَّن يخصُّ رعايةَ المرضى. وتتلخَّص ممارسته في دمج الخبرة السريرية مع أفضل الأدلة السريرية الخارجية المتوفِّرة في الأبحاث المنهجية.
في حين يلخِّص لنا تعريفٌ آخر الطبَّ المستند إلى البراهين بأنَّه نهجٌ وخطّةُ عمل منظَّمة لحلِّ المشكلات السريرية، والتي تسمح بدمج أفضل الأدلة البحثية المتوافرة مع الخبرة المتَّبعة سريريًّا من أجل علاج المريض، لكن يظلُّ التعريف الأشمل له أنَّه اعتماد جهود حثيثة لاتخاذ قرارات سريرية مبنيَّة على الأبحاث المتاحة؛ وذلك مع مراعاة كون هذه العملية خالية من التحيُّز، واستخدام بعض المعايير التي تسمح بالتدخُّل في حالة المريض وحياته عمومًا.
ويُذكَر أنَّه في كانون الثاني/يناير من عام 2007م، وفي استطلاع أجرته المجلة الطبية البريطانية على الإنترنت -احتلَّ فيه "الطب المسند بالدليل" المرتبةَ السابعة من بين أهم 15 نقطة أثَّرت في مسيرة الطب الحديث- شغلت المضادات الحيوية والطب الشعاعي والمناعة أبرزَ النقاط. أمَّا اليوم، فإنَّ أيَّ بحث بواسطة محرِّك البحث "Google" ضمن مواقع الويب لأيِّ غرض؛ سيكون مستندًا إلى ملايين الأدلة. S1
لكن ما هي أشكال هذا النوع من الدراسات البحثية؟ وما هي المهارات اللازمة لتطبيقه؟!
حسنًا، بدايةً هنالك ثلاثة محاور رئيسة يقوم عليها الطب المسند بالدليل؛ ألا وهي:
- الأدلة العلمية ذات الصلة (relevant scientific evidence).
- المحاكمة السريرية (clinical judgment).
- أهمية المريض أو الأولويات (patient's values or preferences).
إذ يبدأ كلُّ شي بمشكلة سريرية معيَّنة يتعامل معها طاقمُ الرعاية الصحية، وبعد صياغة تلك المشكلة بوضوح، يبدأ البحث عن الأدلة العلمية ذات الصلة؛ والتي تشمل نتائجَ دراسة بحثية معيَّنة والآراء المنبثقة عنها.
ويكون التمييز بين تلك الأدلة وفقًا لقوتها نسبيًّا؛ كأن تُفضَّل نتائج الاختبارات السريرية على تلك المبنيَّة على رأي أو توصية موضوعة من قِبل خبير، وتُختار في النهاية المراجعُ الأقوى نسبيًّا بين تلك المتوافرة حاليًّا فيما يخصُّ المشكلة المعنيَّة، واتخاذ القرار المناسب حينذاك.
وتُصنَّف تلك الأدلة العلمية وفق ستة مستويات:
المستوى الأول من النمط A :
يشمل الأدلةَ التي يُحصَل عليها من اختبارات التلوي لتجارب عشوائية متعدِّدة ومُحسَّنة التصميم؛ إذ توفِّر تلك التجارب العشوائية أحدَ أقوى الأدلة سريريًّا، وفي حال تكرار تلك التجارب ودمجها مع اختبارات التلوي؛ فإنَّ نتائج الدراسة الإجمالية ستكون أقوى عمومًا.
المستوى الأول من النمط B :
هو دليل حُصِل عليه عن طريق إجراء تجربة عشوائية واحدة مُدعَّمة بالشواهد ومصمَّمة على نحو جيد، ويمثِّل هذا النوع من الأدلة ما يُعرف بـ "المعيار الذهبي" في الدراسات السريرية.
المستوى الثاني من النمط A :
يتمثَّل هذا المستوى بكونه دليلًا من دراسة واحدة على الأقل، لكنَّه يختلف عن المستوى السابق أنَّ تلك الدراسة قد أُجريت وفق آلية محدَّدة مسبقًا؛ أي تخلو من العشوائية؛ ممَّا يعطي فرصةً واضحةً لظهور بعض التحيُّزات في نتائج الدراسة.
المستوى الثاني من النمط B :
يرتكز هذا المستوى إلى دليل واحد -على الأقل- وفق آلية دراسة الحالة-شاهد (case-control) أو وفقًا لدراسات الحشود (cohort study)؛ وذلك لكوننا لا نستطيع استخدامَ طريقة الدراسة العشوائية المضبوطة في الحالات جميعها.
المستوى الثالث :
يمتاز هذا النوع من الأدلَّة بكونه يستند إلى دراسة واحدة غير تجريبية على الأقل، ومن المحتمل أن يتضمَّن مجموعةً من دراسات الحالة-شاهد أو دراسات الحشود؛ غير المُعدَّة على نحو صحيح أو بما يتوافق مع معاييرها الأساسية.
المستوى الرابع :
يتلخَّص بآراء وتفضيلات الخبراء الذي يتْبعون لجهات علمية موثوقة فيما يخصُّ المشكلة السريرية المطروحة؛ وذلك بناءً على خبرتهم في مجال الطب السريري فقط.
ولكن؛ ما هي المهارات التي يجب إتقانها لمن يود اتِّباع "الطب المسند بالدليل" ؟!
بدايةً؛ لمَّا كان الطب المسند بالدليل طريقةَ بحث تعدُّ نقلةً نوعية في تاريخ الأبحاث السريرية؛ فإنَّ هذه المهارات ضرورية لكنَّها غير كافية بالكامل لممارسة الطب المعاصِر:
إتقان فنِّ البحث عن المعلومات: أي يجب البحث عن أفضل الأدلة المتوافقة مع كلِّ مشكلة على حِدة.
- الارتباط قبل الدقة: لا بُدَّ من تقييم مدى ارتباط تلك الأدلة بالمشكلة، وقدرتها على الإجابة عن استفساراتها قبل أن نتيقَّن من صحَّتها أو من مستواها وفقًا لمنهجية البحث المتَّبعة أعلاه.
- الصحة: إنَّ عملية تقييم صحة أساليب العلاج والاختبارات التشخيصية وقواعد اتخاذ القرارات سريريًّا يجب أن تُراعى أيضًا في هذه المرحلة.
- فهم الإحصائيات: فهم الإحصائيات وقراءتها أمر أساسي يجب إدراكه وتطوير أساليبه؛ كون نتائج أبحاثنا تعتمد على فنِّ الإحصاء.
- الحصول على المعلومات: تمثِّل عملية الحصول على المعلومات مفْصًلا أساسيًّا في عملية البحث العلمي؛ ويكون ذلك عن طريق البحث المستنِد إلى الشبكة العنكبوتية باستخدام وسائل الاتصال المناسبة، أو عن طريق آراء وتوصيات الخبراء.
- تقييم المعلومات: ويتضمَّن ذلك تقييم كلٍّ من آراء الزملاء وتفضيلاتهم، إضافة إلى المعلومات القائمة على البحث الطبي المستمر، والعروض التقديمية والمراجعات، والموجزات المنبثقة عن بحث معيَّن.
- التقييم النقدي: لطالما كان النقد البنَّاء أحدَ أكثر العوامل المساعدة على نجاح أيِّ عمل، وكذلك الأمر هنا؛ فعليك أن ترتكز في نقدك المعلومات إلى أسس النقد العلمي؛ لا سيَّما النقد الموجَّه إلى المعلومات المقدَّمة من قبل خبراء المستحضرات الطبية والصيدلانية.
لكن، ومثل غيره من أساليب البحث العلمي؛ فإنَّ الطب المسند بالدليل يعاني بعضَ العيوب؛ إذ ينبغي الانتباه إلى أنَّ -الممارسة الهادفة إلى هذا النوع من الأبحاث السريرية والتي تقوم على تقييم أفضل الأدلة المتاحة من بين مجموعات خاصة ومختلفة من البيانات- تفرض قيودًا جديدةً عند الاستعانة بالمراجع والأدلة في حال تطبيق هذه الأدلة وتعميم البحث الطبي المستنِد إليها؛ وذلك لكون معظم الأدلة المأخوذة من التجارب العشوائية واختبارات التلوي تكون لمرضى عشوائيين، وليس لمجموعات فرعية موافقة لميِّزات سريرية معيَّنة؛ أي أنَّها إمَّا أن تكون عامة جدًّا وغير محدَّدة، وإمَّا خاصة جدًّا ومقترنة بفئة معيَّنة من المرضى.
إضافةً إلى أنَّ النتائج في هذه الحالات نادرًا ما توفِّر معلوماتٍ مناسبة لطبيعة البحث؛ وذلك في حالة دراسة العلاج الوقائي والمرضي، أو في حال كانت المزايا العلاجية ملتبسة أيضًا. ومن الجدير بالذكر أنَّه من النادر أن تتوفَّر معلومات التجارب العشوائية عن مسبِّبات المشكلة أو التشخيص والإجراءات السريرية المعتمَدة؛ ما يترك فجوةً تضعنا أمام خيار التفضيل والتحيُّز مجدَّدًا! معتمدين على التغيُّرات الجسدية والعوامل الاجتماعية والدعم النفسي والتفضيلات المتَّبعة مع المرضى على المستوى الشخصي.
وفي الختام؛ فإنَّ "الطب المُسنَد بالدليل" يوفِّر إطارًا لتطبيق الأدلة والأبحاث العلمية على حالة المريض السريرية استنادًا إلى معطيات الفحص السريرية والتي يطبِّقها الطبيب المعالج عليه، ويكمن الهدف منه في تحسين النتائج الطبية وإصدار توصيات معيَّنة للمرضى بناءً على دليل معيَّن، وكلُّ ذلك وأكثر يصبُّ في إطار الصحة العامة والفردية في آن معًا.
المصادر:
1.هنا
2.هنا
3.هنا
4.هنا
5.هنا
6.هنا
7.هنا