التاريخ وعلم الآثار > حضارة اسلامية
أبو بكر الرازي ..... فيلسوفا
لم يكن الرازي عالماً عاديّاً بل كان مثال الفيلسوف الحر الذي تأثر بعمق بالعلوم والفلسفة الإغريقية القديمة، وله في الفلسفة وحدها ما يقارب العشرين كتاباً.
وكالفلاسفة الإغريق، كتب الرازي وبحث في علوم ما وراء الطبيعة أو "الميتافيزيقيا" التي تهتم بدراسة طبيعة الوجود وأساسه والعالم الذي يحتويه. وقد تبنى الرازي وجهات نظر جريئة جدا في هذا المجال وذلك من خلال نظريته عن المكونات الخمسة، حيث اعتقد الرازي بوجود خمس مكونات أبدية وهي (الله والروح والمادة والفراغ والزمن). بالنسبة لوجهة نظره الفسلفية يرى الرازي أن الإله لم يخلق الكون من العدم إنما أعاد ترتيب الكون من المكونات الاربعة الأخرى التي وجدت بصورة مسبقة. والروح عند الرازي تمثل الطابع الروحي للكون حيث يقول الرازي أن الإله يعمد إلى إعادة تشكيل تلك الروح ومنحها خصائص فيزيائية بما يتناسب مع رغبته. وحالما يتم إعادة تشكيل الروح فإن الإله يمنحها بعد ذلك القدرة على التفكير لتجد طريقها نحو العبودية والحرية وتكون قادرة على إدراك المبادئ الأربعة الأخرى أي الإله والفضاء والوقت والمادة.
أما المكونات الثلاثة المتبقية وهي المادة والفراغ والزمن فهي تشكل الجزء الطبيعي الخالي من الروح أو الجزء اللاروحيّ من النظرية. ووفقاً لنظرية الرازي فالفراغ يمثل العلاقة والرابط مابين الجزيئات أو الذرات التي تتكون منها المادة والفراغ المحيط بها أيضاَ. وكلما زادت كثافة جزيئات المادة زادت وزناً وصلابةً وعلى العكس تماما كلما زاد الفراغ بين جزيئات المادة كلما قلَّ وزنها وباتت أقل صلابة. أما المادة والزمن عند الرازي فلهما شكلان الأول محدودٌ كأي مادّة نراها في حياتنا والثاني مطلق غير محدود يمثل الشكل النقي من المادة الذي لا يعتمد بأي صورة على المكان. الأمر نفسه نراه في الزمن فالرازي يؤمن أن الزمن له شكل محدود كالزمن اللازم لحركة جسم ما وشكل اخر مطلق غير محدودأبدي. ولاقت أفكار الرازي في الوجود وما وراء الطبيعة الكثير من الاعتراضات من قبل معاصريه حتى من
أولئك الذي عرفوا بتاثرهم بالمدرسة الفلسفية لأرسطو وأفلاطون
فلسفة الرازي في الحياة:
يشرح الرازي عن فلسفته في الحياة في كتابه السيرة الفلسفية ويقول:
"بعد زمن قصير وأنا اكتب كتابي هذا أكون قد أتممت كتابة مئتي كتاب ومقال في مواضيعَ مختلفةٍ في العلوم والفسلفة وعلوم التوحيد (اللاهوت) والحكمة. لم أدخل أبداً في خدمة ملك كرجل عسكري أو رجل دولة وفي أي محادثة لي مع ملك لم أتجاوز تخصصي في الطب ودوري في تقديم النصح. إن من رآني يعرف أني أبداً لم أُكثِر من طعام وشراب ولم أنحرف على طريقي. كل من يعرفني من الناس يعلمون تمام العلم أني كرست حياتي منذ شبابي للعلم فقط. صبري ومثابرتي في السعي وراء العلم جعلتني أصل لدرجة كتبت فيها عن موضوع علمي واحد فقط ما تجاوز العشرين الف صفحة من الحجم الصغير وجعلني أمضي خمسة عشر عاماً من حياتي عاكفا ليلاً ونهاراً على كتابة موسوعتي الطبية (الحاوي) وفي تلك المدة فقدت نور عيني وعانت يداي من الشلل وها أنا الآن محروم من القراءة والكتابة ولكني لم أستسلم وأستعين بأصدقاء لي للقيام بذلك.
لست ممن يتشبث برأيه بل على العكس تماما فأنا مستعد كل الاستعداد لتقديم التنازلات خلال مناظراتي ولكني أيضا أشعر بفضول كبير لمعرفة آراء الآخرين عن إنجازاتي العلمية فلو رأوا فيها عيباً ما أو خللا فسوف يعمدون لتقديم آرائهم وتوضيح نقاط الضعف مما يسمح لي بدراستها والتعمق فيها وفيما لو تيقنت من صواب رأيهم فسوف أقبله وأعيد النظر فيما قمت به. ولو خالفتهم في رأيهم فسأعمد إلى فتح نقاش معهم للبرهان على صوابية رأيي وماتوصلت إليه. ولكن أن اقتصر خلافهم معي على طريقة حياتي فسوف أقدر عاليا لهم استخدام علمي ومعرفتي وأيضا عدم التدخل في سلوكي."
مماسبق نجد أن الرازي لخص منهجه وطريقته في الحياة. كما وضع إطارا يقوم على وجود حياة بعد الموت ملؤها السعادة وخالية من المعاناة والألم كما آمن بوجود علاقة بين السلامة الروحية وصحة البدن. وبدلا من الانغماس في ملذات الحياة يعتقد الرازي أن على الانسان أن يكرس حياته سعيا للمعرفة وأن يستخدم ذكاءه ويطبق العدل في حياته وكما يقول الرازي معلقا على ماسبق: "هذا مايريده الخالق الرحيم، الخالق الذي له نصلي طلبا للثواب وخوفا من العقاب".
الرازي ونظرية نقد النبوة والأديان والكتب المقدسة:
لقد شغلت نظرية نقد النبوة القسم الأكبر من نقد الأديان للرازي، فالرازي الذي لم يؤمن بالنبوة، كان نقده لها يقوم على أساسات عقلية وأخرى تاريخية. فمن الناحية العقلية كانت حجته بأن العقل يكفي وحده لمعرفة الخير والشر فلا مدعاة إذاً لإرسال أناس يختصون بهذا الأمر من جانب الله، حيث أورد الرازي في مستهل كتابه "الطب الروحاني" ما يلي: "إن البارئ -عزّ إسمه- إنما أعطانا العقل وحبانا به لننال ونبلغ به من المنافع العاجلة والآجلة غاية ما في جوهر مثلنا نيله و بلوغه، و إذا كان هذا مقداره ومحله وخطره وجلالته فحقيق علينا أن لا نحطه عن رتبته ولا ننزله عن درجته، ولا نجعله وهو الحاكم محكوما عليه، ولا هو المتبوع تابعا." و هو بذلك يرفع من قيمة العقل ليجعله بمنأى عن اتباع أي سلطة دينية تحاول تقييد ذلك العقل. و في مناظرته مع أبي حاتم الرازي أورد الشيء الكثير عن منهجية نقد نظرية النبوة والتي يمكن تلخيصها في:
1- العقل يكفي وحده لمعرفة الخير والشر في الحياة، فالإنسان العقلاني ليس بحاجة إلى من ينير له درب الهداية.
2- لا معنى لتفضيل بعض الناس واختصاص الله إياهم بإرشاد الناس جميعا.
3- الأنبياء متناقضون فيما بينهم، و ما دام صدرهم واحدا وهو الله فيما يقولون، فإنهم لا ينطقون عن الحق، و النبوة بالتالي باطلة.
أما في نقد أبو بكر الرازي للأديان فيستمر في نهجه باعتبارها نتيجة للنبوة، فقد نقد الرازي جميع الأديان، ولم يكن نقده باسم مذهب ديني معين، بل تناولها جميعا ووضعها تحت النقد العقلي. بل إن نقده جاء في بعض الأحيان لاذعاً خاصة في تعرضه لنقد رجال الدين وتأثيرهم على العامة، و خاصة في تخويف الناس وإرهابهم، ومنعهم عن التفكير.
لم يكتفي الرازي بنقده لنظرية النبوة والأديان بل تعداها أيضا ليشمل الكتب المقدسة في نقده، فقد حاول تبيان ما رأى فيها من تناقض وتجسيمات و يقول لنا عبد الرحمن بدوي: " و لسنا ندري إلى أي مدى قام بنقد الكتب المقدسة الأخرى، ولكن يظهر أنه حاول ضرب هذه الكتب المقدسة بعضها ببعض أولا، ثم يفصل النقد الإيجابي في نقدها من جانبه هو ثانيا. فهو ينقد اليهودية وآثارها عن طريق المانوية. كما ينقد المسيحية فيما يلوح، و إن لم يظهر في النصوص التي بأيدينا بما ورد في القرآن من تحريف الإنجيل، كما أنه ينقد القرآن على أساس ما ورد فيه مخالفا لما في المسيحية و اليهودية." من أقواله في المناظرة الشهيرة أيضا مع أبي حاتم الرازي الذي يقول: "من أنكر ذلك (أي إعجاز القرآن) فليأت بمثله، فيقول الرازي: و نحن نقول لكم كذلك ائتونا بمثل ما في كتاب أصول الهندسة والمجسطي و غيرهما. قال الرازي: "إنا نطالبكم بالمثل الذي تزعمون أنّا لا نقدر أن نأتي به" و هو بهذا التحدي يشير إلى أن الحجة نفسها ترتد على الخصم، فليس في وسع إنسان أن ياتي بما أتى به آخر."
فلاسفة وعلماء نقدو الرازي:
العديد من العلماء وفلاسفة المسلمين قد تعرضوا للرازي وآرائه بالنقد سواء ممن عاصره أو ممن جاء بعده. ممن خالف الرازي في ارائه من معاصريه نجد أبو الربان البلخي رئيس جماعة المعتزلة في بغداد والذي خالفه وفند آراءه الفسلفية في العديد من الكتب وبالأخص كتابه العلم الإلهي. كما أنه لم يتفق مع الرازي حول أفكاره عن مفهوم الزمن الذي تطرق له الرازي في نظريته عن المكونات الخمسة. أيضا أبو حاتم الرازي احد مشايخ الطريقة الاسماعيلية ومبشريها والذي ناظر الرازي مرارا ودوَّن مناظرته له في كتاب عالم النبوة ومن خلال هذا الكتاب وصلت إلى أيدينا آراء الرازي الفلسفية والدينية.
البيروني أيضا أفرد رسالة قصيرة حول الرازي موجها نقداً لآرائه الفسلفية منها والدينية وكما وجه نقداً ورفضاً لآراء الرازي المعارضة للفيزياء الرياضية والرياضيات. في حين أن ابن سينا كان أكثر حدة في كلامه من البيروني حيث يقول أن الرازي بدخوله علم ما وراء الطبيعة قد تجاوز اختصاصه وأنه من الأفضل له لو بقي محصوراً في الجراحة واختبارات البول والبراز، وبكل تأكيد فإن الرازي (كمايقول ابن سينا) قد عرض نفسه للنقد وأظهر جهله في هذه القضايا.
كلمة الباحثون:
مما سبق نرى أيها السادة أن تلك الفترة التي عاش فيها الرازي كانت فترة تنوير كان فيها مراكز معروفة وأئمة للمذاهب الدينية والفلسفية على اختلافها. لم يحرق فيها كتاب أو يقتل فيها عالم أو يُكفَّر بل كانت المناظرة سلاحا والنقد بالكلمة وسيلة. بتلك الطريقة ارتقت شعوب الحضارة الاسلامية في العصور الوسيطة وساهمت في النقلة الحضارية للبشرية وليس بغير ذلك ابدا.