الرياضيات > الرياضيات
هل الرياضيات في أزمة؟
البرهان جوهر الرياضيات؛ إذ إنَّ النتائج الرياضية تُستخلَص من المبادئ الأساسية استنادًا إلى سلاسل تفسير منطقي لا لبس فيها.
ويمنح البرهانُ الرياضياتِ تفرُّدها وتألقها، مميّزًا إياها عن أي محاولة ذهنية مجردة.
ذكر كيفن بزرد Kevin Buzzard -بروفيسور الرياضيات البحتة في جامعة إمبريال- أنَّ ثمّة براهين تحوي أخطاء وفجوات، أو لم يفهمها إلّا شخصٌ أو اثنان على مستوى العالم أجمع، فإذا ما نُشِر برهان في الصحيفة الأكاديمية فهذا لا يعني بالضرورة أنه صحيح كليًّا، وهذا ما دفعه إلى إعادة تقييم سير الأمور في مجال عمله الذي اختاره.
ولمعرفة أيٍّ من النتائج تصدق؛ تحتاج أن تكونَ ممن لديهم إمكانية الوصول إلى الخبراء الذين يُجمعون على البراهين.
أين تكمن المشكلة؟
إن المشكلة ليست في سعي البعض للخداع، فليس هنالك أيّةُ غرابة مثلًا في أن تجد مؤلفين يستندون في عملهم إلى أوراق غير منشورة إذا كانوا على درجة من الثقة بأن نتائج هذه الأوراق ستمر قريبًا بعملية مراجعة الأقران التي تحدث قبل الموافقة على نشر الورقة للتأكد من صحتها وترابطها، وأنَّها تضيف جديدًا إلى ما نُشِر من قبل أيضًا؛ وطبعًا في بعض الأحيان قد لا تبصر النتائج غير المنشورة النورَ أبدًا.
فإن بنى أشخاص عملهم على نتائج غير منشورة ولم يُتحقَّقُ منها زادَ احتمال الوقوع في الخطأ، وبالاستمرار على هذه الوتيرة يصعب اكتشاف هذه الأخطاء وحلها.
وقد يلاحظ بعض الناس من ذوي التخصص نفسه هذه المسألة، لكنَّ إجماع المتخصصين على صحة البراهين يقطع الشك باليقين.
يرتكب الجميعُ الأخطاء، حتى الخبراء الذين يجزمون بصحة نشر ورقة أم لا؛ فمنهم من لا يملك الصبر الكافي للتدقيق سطرًا سطرًا، في محاولة منه لإقناع نفسه بأن الطرائق المتبعة قوية كفاية لإثبات النتيجة الرئيسة.
وإذا وُجِدت الأخطاء صريحةً بعد النشر فما من عالم ذي قدر ومكانة سيرفض تصحيحها، ولكنَّ هذا يحدث في العدد الآتي من المجلة خطأً أو ملاحظة من المحررين، وكم من الأشخاص قرأوا هذا؟ ذوو الخبرة سيعرفون، ولكنَّ الآخرين -بالطبع- لن يلحظوا فرقًا!
على أيّة حال؛ إن الأخطاء أو الفجوات تظهر في البراهين الطويلة والمعقدة جدًّا، والتي سيفهمها عدد قليل من الناس على مستوى العالم.
كمثال شهير؛ نطرح "تصنيف المجموعات المحددة البسيطة"، الذي يعد انتصارًا لرياضيات القرن العشرين. فالنسخة الأولى من البرهان صدرت في عام 1983، متجاوزةً 10,000 صفحة، وموزَّعة على 500 مقال لأكثر من 100 كاتب مختلف. لاحقًا تبين أن هناك مشكلة في هذا الإثبات استغرقت تسع سنوات وورقة من أكثر من 1,000 صفحة أخرى لإصلاحها.
ولتفادي هذا الكم من التعقيد وعدَ المؤلفون باستحداث نسخة جيل ثانٍ أكثر بساطة موزعةً على اثني عشر مجلدًا؛ فبِحلول عام 2019 ظهرت سبعة مجلدات فقط؛ إذ إن البرهان بأكمله لم يُحِط به إلا عدد قليل من الناس الذين تقدموا في السن.
وإنَّ مشكلاتٍ كهذه تقوّض الرياضيات، وتدفعها إلى الانزلاق نحو أزمة حقيقية؛ فالرياضيات موضوع إبداعي لا إجرائي، وعلماء الرياضيات بشرٌ يحبون العمل الجماعي ولكنهم لا يستمتعون بالتفاصيل، فالتزامهم الدائم بالإجراءات صيَّرهم آلات.
والحل؟
يكمن الحل في "العمل بالآلات وليس مثلها!".
يمثّل علماء الحاسوب والرياضيات فريقَين متقاربين باختلاف أساسي، هو أنَّ علماء الحاسوب يصلحون الأخطاء، أما علماء الرياضيات فيتجاهلونها. وقد طُوِّرت برمجيات لاستنباط البراهين، ليس بالاستغناء عن أصحاب الاختصاص، بل بالإسهام في التحقق من صحة النتائج؛ فعند إدخال برهان ما ستتحقق البرمجيات من كل الخطوات المنطقية والبديهيات الرياضية، وإن وجِد خطأ أو فجوة ستتلقى تنبيهًا لتصلحه.
ومثال على ذلك؛ نذكر واحدة من أبرز هذه البرمجيات LEAN، التي طُوِّرت لسد الفجوة بين إثبات النظرية اليدوية والمحوسبة عن طريق وضع الأدوات والطرائق الآلية في إطار يدعم تفاعل المُستخدِم وبناء البراهين البديهية المحددة بالكامل.
الروبوتات تمارس الرياضيات
حتى الآن لم تصل الحواسيب إلى المرحلة المطلوبة في حل الرياضيات، لكن من الممكن أن تكون عونًا في التحقق من النظريات.
في اعتقاد علماء الحاسوب أنّه إذا لم تثبت نتائج نظرية ما باستخدام إحدى البرمجيات فإنَّ النقاش بشأنها قائم، ومن الممكن التحقق منها بحرص أكبر.
وبحسب بزرد فإنَّ ترجمة البراهين إلى رموز تفهمها البرمجية تتطلب مجهودًا هائلًا بكُلفة تصل تقريبًا إلى 100 مليون جنيه إسترليني، الأمر الذي يمكن تلافيه لاحقًا بتنشئة العلماء حديثي العهد على المقاربة على أقل تقدير، وهذا هو أسلوبه مع الجامعيين في تطبيق نتائجهم باستخدام البرمجيات. فإذا اتُّبِع هذا الأسلوب- في حين أنَّ الآخرين مستمرون في التحقق من النتائج الموجودة- يمكن ردّ الرياضيات إلى مسارها الصحيح.
وتتمثّلُ إحدى المخاوف التي تؤرق العلماء بشأن استخدام الحواسيب في إنجاز عملهم في ضياع المعرفة الحقيقية؛ فإذا نفَّذت الحواسيب ذلك بمستوى لا يسمح لنا إدراكنا المتدني بمتابعته فليس من العدل الادعاء بفهم النتائج.
وكل ذلك يكون مع مراعاة أنَّ الحواسيب ليست معصومة من الخطأ بالطبع، لكنها تُخطئ أقلَّ من البشر، وجوهر الحل أن تتاح البراهين للبشر والحاسوب على حد سواء، عندئذٍ لن يُفقَدَ شيء، وستحقق الرياضيات المكاسب.
المصادر:
1- هنا
2- هنا
3- هنا