الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة
المجتمع والدين عند الفارابي
لُقِّب أبو نصر محمد الفارابي هنا بالمعلم الثاني؛ لشرحه أعمال أرسطو المنطقية وتحليلها، وهو أحد أهم فلاسفة الحضارة الإسلامية [1]، واشتهر بتأثيره في الغرب اللاتيني والمنهج الأكاديمي الأوروبي بسبب تقسيمه العلوم وتصنيفها [2]، إضافةً إلى كونه موسيقيًّا وعالمًا وسياسيًّا رئيسًا في البناء الفلسفي، وطوّر المنهج الأفلاطوني في كتابه الأشهر (آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها).[1]
وعلى الرغم من أن الفارابي لم يكن الفيلسوف الأول في العصر الإسلامي الذي اهتم بفلسفة الدين والمجتمع؛ لكنه وضع رؤية في غاية الأهمية لتلك الفلسفة بعد أن كان مُتعطِّشًا لقراءة نصوص أسلافه المترجمة من اليونانية إلى السريانية ومن ثمَّ إلى العربية.
وتتضمن فلسفة المجتمع -أو الفلسفة المدنية- عند الفارابي محورين أساسيين:
1. الأخلاق النيقوماخية لأرسطو (Nicomachean Ethics) التي يدرس فيها الأخلاق والفضائل؛ وتتكون من عنصر أنثروبولوجي وأخلاقي في جوهرها، ومن ثم تصبح الفلسفة المدنية مُكرَّسة للبحث عن (كمال الإنسان)* بوصفه فردًا.
2. شكل الدولة عند أفلاطون وفلسفة السياسة لأرسطو؛ ويشمل هذا المحور المدينة كلها آخذًا في الحسبان بنية المدينة وإدارتها، ويقيّم نجاح نظام المدينة في توجيه مواطنيها نحو الكمال الفردي، ومن ثمَّ نحو السعادة القصوى.[3]
ووفقًا للفارابي فإن المجتمع يجب أن يكون اجتماعًا تعاونيًّا إنسانيًّا من أجل أن يبلغ الكمال، الذي بدوره يكوِّن هدفًا أساسيًّا من الوجود الإنساني والفطرة الطبيعية، ويقول في كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها): "وكل واحد من الناس مفطور على أنه محتاج في قوامه وفي أن يبلغ أفضل كمالاته إلى أشياء كثيرة لا يمكنه أن يقوم بها كلها هو وحده، بل يحتاج إلى قوم يقوم له كل واحدٍ منهم بشيء مما يحتاج إليه."[4]
يعدُّ الفارابي الدينَ (الملَّة) قادرًا على توجيه أفراد المجتمع نحو الكمال الإنساني فيتشاركون في الوصول إلى السعادة الفردية ومن ثمَّ الخير للمدينة بأكملها، ومن جهةٍ أخرى؛ اتَّخذ الدين تعريفًا إداريًّا فحسب في فلسفة الفارابي، فعدَّه أداةً لتطبيق الفلسفة المدنية لكنه غير مؤهل ليكون مجالًا للمعرفة والحكمة والحقيقة بحد ذاته، وأثّر مفهوم الدين في فكر الفارابي ومكانه في الفلسفة المدنية تأثيرًا كبيرًا في فلاسفة الإسلام اللاحقين مثل ابن باجه وابن طفيل وابن رشد.
بدا هذا التعريف أنّه انتقاصٌ من أهمية الدين عند كثير من الديانات وخاصة عند الإسلام؛ لأن الفارابي حدد الدين بجعله أداةً إداريةً فحسب، وأنكر كونه مجالًا مستقلًا للحكمة والمعرفة، ويؤكد الفارابي في كتابه (الملة) أن الفلسفة متفوّقة على الدين عندما يتعلق الأمر في مستويات معرفية محددة.
يُعرِّف الفارابي الدين في كتابه (الملَّة) -وهو الكتاب الأشمل في تناوله تفاصيل الدين وفلسفته-:
"الملة هي آراء وأفعال مقدرة مقيدة بشرائط يرسمها للجمع رئيسهم الأول، يلتمس أن ينال باستعمالهم لها غرضًا فيهم أو بهم محدودًا، والجمع ربما كان عشيرة وربما مدينة أو أمَّة عظيمة، وربما كانت أمما كثيرة، والرئيس الأول إن كان فاضلاً وإن كانت رئاسته فاضلة في الحقيقة، فإنّه يلتمس بما يرسم من ذلك أن ينال هو وكل من تحت رئاسته السعادةَ القصوى، وتكون تلك الملة الفاضلة."[3]
وبهذا يتكوّن الدين عند الفارابي من عنصرين أساسيين وهما الآراء والأفعال؛ والآراء في الملة منها في أشياء نظرية ومنها في أشياء إرادية، والآراء النظرية هي عن الإله وتكوين العالم وأجزائه وأصول الأجسام والنبوة والوحي...إلخ، وأما الأخرى فهي عن الأفعال الخيّرة والشريرة للأشخاص الذين كانوا في الزمان السالف، وأمّا الأفعال فهي إمّا فيما يجب أن يفعله الإنسان بنفسه وإمّا فيما يجب أن يعامل به غيره.[5]
إضافةً إلى أنه وصف الدين بأنه نتيجة لأنشطة الحاكم الأول، ويقصد الفارابي هنا بمصطلح (الأول) أن الرئيس أو الحاكم هو الشخص الأول الذي أنشأ الآراء والأفعال التي يجب أن ينفذها المجتمع الذي يحكمه ويُفترَض على الحاكم أن يدافع عنها وينفّذها بغية الوصول إلى السعادة المطلقة -في حال كان فاضلًا- ومن ثمَّ فالدين عنده هو أداة حكم وليس هدفًا في حد ذاته.[3]
*كمال الإنسان هو أن تصير نفس الإنسان من الكمال في الوجود إلى حيث لا تحتاج في قوامها إلى مادة، ويتحقق ذلك عبر السعادة؛ فهي الخير المطلوب لذاته وليست تُطلَب أصلًا ولا في وقت من الأوقات لينال بها شيء آخر.[4]
المصادر:
1- هنا
2- هنا
3- هنا
4- الفارابي، أبو نصر محمد، آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، مصر. ص61 + ص69
5- الفارابي، أبو نصر محمد، كتاب الملة ونصوص أخرى، دار المشرق، بيروت، لبنان، ط2، 1991. من ص44 حتى 46