البيولوجيا والتطوّر > التطور
بماذا يفيدنا فَهم التطور في القرن 21
لغز الأسماك التي يَصغُر حجمها:
كان هناك سياسة متبعة لحماية الأسماك؛ فقد وضعت بعض الدول قانوناً طبَّقه الصيادون فترة يقتضي إعادة الأسماك الصغيرة في حال صيدها إلى البحر؛ ليكون لها الفرصة لتنمو وتتكاثر، ثم لاحظ الناس في أماكن متعددة أن حجم الأسماك البالغة بدأ يصغُر مع مرور الوقت، افترض البيولوجي دايفيد كونوفير أن سياسة الصيد المتبعة تدفع الأسماك لتطوير أجسام بحجم أصغر.
أما التفسير العلمي لذلك فهو كما يأتي: صحيح أن الأسماك الصغيرة هي غالبًا أسماكٌ غير ناضجة، ولكن يمكن للأسماك البالغة أن تكون بأحجامٍ مختلفة كبيرة وصغيرة، ويعيد الصيادون الأسماك الصغيرة الحجم إلى المحيط ظنًّا منهم أنها غير ناضجة؛ مما يتيح لها فرصةً أفضل للتكاثر ويزداد عددها مقارنةً بالأسماك الكبيرة التي تُصطَاد، وخلال التكاثر تتنقل المادة الوراثية من الآباء إلى الأبناء حاملة معها الصفات الوراثية التي تتضمن صفة الحجم الصغير، وعلى النقيض ينخفض تعداد النسل الحامل لصفة الحجم الكبير.
لاختبار هذه الفرضية؛ أجرى كونوفير تجربة فوضع ثلاث مجموعات من أسماك atlantic silverside في ثلاثة أحواض واعتنى بها حتى وصلت إلى مرحلة النمو الكامل وقبل بدء مرحلة التكاثر أزال الأسماك الأكبر حجمًا من الحوض الأول، والعدد ذاته من الأسماك بغض النظر عن الحجم من الحوض الثاني (العينة الشاهد)، أما من الحوض الثالث أزال الأسماك الأصغر حجمًا، وتركهم ليتكاثروا وكرر العملية ذاتها كل عام مدةَ أربعة أعوام، ونتيجةً تطور حجم الأسماك البالغة في الحوض الثالث ليصبح ضعفي حجم الأسماك البالغة في الحوض الأول، وقد أثبتت هذه التجربة أن سياسة الصيد المتبعة للحفاظ على الأسماك دفعتها للتطور إلى أحجام أصغر.
إن إجراء هذه التجربة تحت ظل نظرية التطور ساعد الحكومات على تعديل سياسة الصيد المتبعة؛ فتحافظ على التوازن والتنوع في مجتمع الأسماك.
تشرح نظرية داروين أن تطور الكائنات الحية لا يتأثر بالظروف البيئية والمناخيةفقط، وإنما بالكائنات التي تشاركها المنطقة أيضًا، وإن هذا التطور يحدث انطلاقاً من حاجتها إلى البقاء والنجاة من أي خطر.
ومثالًا على ذلك سنتناول: أولًا- شقائق النعمان البحرية التي تُعدُّ كائنات بحرية مفترسة تقتل فريستها بمِجسات لاسعة! سمكة المهرج clownfish وهو صنف السمكة الأكثر شهرة على مستوى العالم باسم "نيمو" من فيلم الكرتون الشهير “finding nemo” قد طَورت على مرِّ الزمن مناعةً للسعات شقائق النعمان البحرية؛ مما ساعد أسماك المهرج على البقاء والتكاثر والاستمرار؛ حتى أن بعض أسماك المهرج بدأت بالاعتماد على شقائق النعمان البحرية متخذةً منها ملجأً آمنًا للاختباء من أعدائها، وهنا تتضح الإجابة عن تساؤل: "ماذا يحدث إن أزلنا شقائق النعمان البحرية من منطقة ما في البحر؟" في العديد من الحالات سيؤدي ذلك إلى انهيار تعداد أسماك المهرج وربما اختفائها، ويُعدُّ هذا مثالًا واضحًا على العلاقة التآثرية بين الكائنات التي تشترك في منطقة واحدة وكيف أن أحد الأنواع يؤثر في وجود الآخر واستمراريته.
ماذا لو كانت المنطقة التي تعيش فيها مجموعة من الكائنات لا توفر لها مقتضيات البقاء؟ أو حتى تُعرِضها للخطر؟! ربما تُضطر هذه المجموعة للمهاجرة والاستقرار في أرض جديدة.
في هذا المثال نناقش لغز المساحات الصحراوية التي تتوسع يومًا تلو الآخر في المواقع المحيطة بالتجمعات البشرية، وفي أثناء محاولته لتفسير ذلك؛ لاحظ آلان سافوري [ii] وهو بيولوجي من زمبابوي أن حيوانات الرعي تتجنب المناطق المأهولة بالسكان؛ فتساءل إن كانت النباتات المحلية قد طَورت شكلًا من علاقات الاعتماد على هذه الحيوانات، ونتيجةً لانتقالها بدأت النباتات بالتراجع والانحسار!
ولاختبار الفرضية، أحضر آلان وفريقه مجموعات كبيرة من الماشية إلى منطقة عشبية في حالة متدهورة تموت الأعشاب وتتقهقر المساحة الخضراء، وحركوا الماشية في تشكيل من القطعان تحاكي سلوك الماشية البري؛ المدهش أنه في أقل من سنة واحدة، بدأت الأرض بالتحسن! ومع استمرار التجربة استعادت الأرض صحتها كليًّا.
لا يزال استيعابنا للعلاقة التآثرية بين الأراضي العشبية والماشية بسيطًا، ولكن يبدو أن هذه الأراضي قد طَورت شكلًا من العلاقة الاعتمادية على المواشي في أغلب المناطق في العالم، كيف يتجلى هذا الاعتماد؟ ولمَ تحتاج الأرض إلى الماشية؟ يبدو أنها تعتمد عليها لحرث التربة بأقدامها، وتزيد خصوبة الأرض بروثها، وتزيل الغطاء النباتي الفائض بالتهامها له مفسحةً المجال للبراعم الجديدة بأن تنمو مع عودة الأمطار، وبالاستفادة من هذه الحقائق؛ يمكننا تحسين سياسات الحماية البيئية ومنع التصحر.
يبدو أن داروين يفوز من جديد، فإنَّ أفكاره وبعد أن أثبتت صحتها واتخذت رتبة النظرية، ها هي تنقذنا وتمد لنا يد العون لحل مشكلاتنا اليومية وتحسين ممارساتنا للحصول على نتائج أفضل.
المصادر:
[i] هنا
[ii] هنا