اللغة العربية وآدابها > شمس القصيد
أرَتْـني القمرَين
لطالما شبَّه الشعراءُ وجه المحبوب بالشمس والقمر، وتحرَّوا تصوير ملامحه الفاتنة بشغفٍ وحبٍّ، وقد كان للمتنبِّي الشَّغفُ نفسه وبعض التشابيه نفسها، لكنّه اعتاد أن يقدّمها بأسلوبٍ مُغاير مُبدِع؛ إذ راح يصوّر في هذا البيت كيف أطلَّ وجهُ المحبوبة قبالة القمر فانسكبَ ضوءُه عليه ليلًا، ولمّا كان وجهُها غايةً في الجمال فقد جعلَت المتنبيَ يرى قمرَين في ليلةٍ واحدة؛ أي وجهها والقمر.
لكنَّ الصورة الفنّية (أرتني القمرَين) تحتمل معنيَين اثنين:
أ. يقول التبريزي (ت: 502هـ) في المُوضِح "يجوز أن يعني بها قمرين متساويين لأنَّ الوجه المستحسَنَ يُشبَّه بالقمر، ولم تجرِ عادة الليل أن يكون فيه إلّا قمرٌ واحد".
وهنا تتبيّن جمالية الصورة في المبالغة والانزياح عن المعقول، فالمحبوبة أرَته بحُسن وجهها ما لا يمكن رؤيته؛ وهو أن يظهر قمران اثنان في ليلة واحدة معًا.
ب. "القمران" لفظٌ يُقصَدُ به الشمس والقمر معًا، وفي هذا يكمل التبريزي: "ويجوز أن يعني بالقمر الذي أرَته الشمسَ، لأن الشمسَ والقمر لا يجتمعان".
وقول التبريزي أنَّ "الشمس والقمر لا يجتمعان" فيه نظر، فقد يظهر القمر في النهار في أوقات ومواقع مخصوصة؛ عندما يكون برّاقًا كفايةً وعاليًا في السماء على نحوٍ يسمح برؤيته، ولا يمكن عدُّ هذا نادرًا حتّى. فربّما قصد التبريزي أنّهما لا يجتمعان أحدهما قرب الآخر بجلاءٍ ووضوح أو في موقع واحد. وبهذا تحمل الصورة هنا تأويلين؛ إمّا أنَّ الشمس والقمر اجتمعا في وجه المحبوبة في وقتٍ واحد وهو تأويلٌ بعيد لكنَّه جائزٌ، وإمّا أنّه قصد إلى تشبيه وجه المحبوبة بالشمس فقط، وهي صورةٌ أشدُّ مبالغةً من سابقتها (أنَّ وجهها قمرٌ)، فضياءُ الشمس أقوى من ضياء القمر، وبهذا يكون وجه المحبوبة بدا شمسًا مع القمر في آنٍ واحد، لكنّه أجمل منه وأكثر إشراقًا وحُسنًا.
فأيُّ معنىً قد قصد المتنبي في رأيكم؟!
المصادر
[1] ابن منظور، محمد بن مكرم. (د.ت). لسان العرب. (ط. 2). بيروت: دار صادر.
[2] البرقوقي، عبد الرحمن. (2014). شرح ديوان المتنبي. (ط. 2). مصر: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة. ص 767.
[3] التبريزي، يحيى بن علي. (2002). الموضِح في شرح شعر أبي الطيب المتنبي. دراسة وتحقيق نعمان، خلف رشيد. (ط. 1). (ج. 3). بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة. ص ص 316. 317. [ونفسه، (ج. 1). ص 33.
[4] العسكري، أبو هلال. (1994). ديوان المعاني. شرحه وضبط نصه بسج، أحمد حسن (ط. 1). (ج. 1). بيروت: دار الكتب العلمية. ص ص 221- 222.
[5] المتنبي، أبو الطيب. (1983). الديوان. بيروت: دار بيروت للطباعة والنشر. ص 117.
[6] عن ظهور القمر نهارًا: هنا