اللغة العربية وآدابها > شمس القصيد
مُغريةٌ كلمات الوداع
قبل الشروع في تحليل الأسطر الشعرية؛ وجب أن نُشير إلى اعتمادها أساسًا على "الانزياح" الذي هو -بتبسيط ممكن- "خرقٌ لاستعمال اللغة المألوف يؤدي وظيفة محددة".
يبدأ محمد الماغوط نصَّه بانزياحَين؛ أحدهما نحويٌّ بسيط بتقديم الخبر (مغرية) على المبتدأ المركَّب (كلمات الوداع)، والآخر دلاليٌّ استعاري قوي قوامه "المنافرة"، فالإغراء هو فعل جذبٍ نحو شيء مُحبَّب عمومًا، في حين أنَّ الوداعَ -الترك أو الفراق- حدثٌ مؤلمٌ ومحزنٌ عادة؛ أي حدثٌ غير مرغوب فيه، فكيف تكون كلمات الوداع مُغريةً جذَّابة؟
يعود الشاعر ليكرّرَ كلمة "مغرية" مرتين، فيؤكّد شدّة العاطفة ويُعمّق الأثر الجمالي بالتكرار، مشبِّهًا إغراء كلمات الوداع بإغراء "زجاجة سمٍّ في راحة قائد منهزم"، فينفي الانزياحَ الأول ويُعيد الملاءمة المنطقية للمعنى، لأن القائد المهزوم قد يتشهَّى الموت، وحين تحتضن "راحته" زجاجة سُمٍّ قاتلة فإنها تغويه وتدفعه لشربها كي يُنهي مأساته، وكذلك كلمات الوداع -آخر ما يتبقى في ذهن مَن يفارق أحبّته- تغوي وتقتل في الوقت عينه، إذ تستعادُ في مخيّلته وتوقِد مشاعره المتضاربة.
ويتعالى النص نحو خرقٍ آخرَ يزيدُ جمالية اللغة وطاقة كلماتها، فالكلمة "لكنَّ" تدلُّ على التعارض. وبعد أن شبَّه الشاعر كلماتِ الوداع بزجاجة سمٍّ (قاتلة) يقول: "ولكنها قاضية"، وبالطبع لا تعارضَ بينهما في الدلالة، بل يعزّزُ الشاعر دلالَتي الإغراء والألم بتعارضهما الظاهري فقط، فالكلمات "مغرية" لكنَّها "قاضية"؛ إذ يُكسِب الدلالتَين قوةً إضافية تكشف لوعة الشوق الدفين، وتترك أثرًا جماليًّا عميقًا.
ثم يتجاوز الشاعر صورة الوداع التي بدت عامّةً ليخصصها ويبرزها بتجربته الفردية مناديًا: "يا حبيبتي"، وهنا تُحالُ دلالة "القائد المنهزم" إليه، وكأنَّه كان عاشقًا بطلًا في قصة حبٍّ مثَّلت صراعًا، ثم تجرَّع في نهاياتها مرارة الهزيمة وحرقة الأشواق.
والآن برأيكم؛ ألم يُحقِّق الماغوط بكلماته ما يقوله الناقد رولان بارت عن الشعر الحديث: "وهكذا تغدو كل كلمة شعرية موضوعًا مُباغِتًا … تتطاير منها كل قدرات اللغة، فالكلمة تُنتَج وتُستهلَك بفضولٍ أو بنوعٍ من النَّهَم المقدَّس"؟
المصادر
[1] بارت، رولان. (2002). الكتابة في درجة الصفر. ترجمة خشفة، محمد نديم. (ط. 1). حلب: مركز الإنماء الحضاري. ص 64.
[2] الجيوسي. سلمى الخضراء. (2007). الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث. ترجمة لؤلؤة، عبد الواحد. (ط. 2). بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
[3] عبد الحميد، شاكر. (2001). التفضيل الجمالي (دراسة في سيكولوجية التذوق الفني). سلسة عالم المعرفة. العدد 267. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون الآداب. ص ص 327- 350.
[4] القيّم، علي. (2006). محمد الماغوط العاشق المتمرد. دمشق: منشورات وزارة الثقافة. ص 11.
[5] كوهن، جان. (1986). بنية اللغة الشعرية. ترجمة الولي، محمد والعمري، محمد. (ط. 1). الدار البيضاء: دار توبقال.
[6] الماغوط، محمد. (2006). الفرح ليس مهنتي. (طبعة خاصة بجريدة الاتحاد). دمشق: دار المدى. ص 73.
[7] ابن منظور، محمد بن مكرم. (د.ت). لسان العرب. (ط. 2). بيروت: دار صادر.