علم النفس > المنوعات وعلم النفس الحديث
الفصام من منظور مختلف
الفصام مرضٌ عقلي يؤثر في وظائف الدماغ المختلفة، فيفقد المريض القدرة على التفكير الواضح واتخاذ القرارات الحساسة والتحكم بعواطفه والتواصل مع الآخرين، ويقتنع بأمور غير صحيحة كأن يتخيل أحدَهم يلاحقه ويريد قتله وهذا ما يسمى بالتوهُّمات، إضافةً إلى الهلوسات السمعية والبصرية.
إنّ إصابتك بالفصام لا تزال تشبه تلقيك الحكم بالسجن مدى الحياة، ولكنّ تقريرًا لحالة سريرية نشرتها مجلة NCBI عام ٢٠١٧ أظهر تراجعًا في هذه الأعراض لدى مريض فصام معنّد على العلاجات الدوائية، وذلك بعد خضوعه لعملية زرع نقي عظام إثرَ تشخيصه بابيضاض نقوي حاد.
وقد كان المريض الذي يبلغ من العمر 20 عامًا يعاني نوبات هلوسة وأوهام شديدة غير مستجيبة للعلاج، ثم شُخّص لاحقًا بابيضاض نخاعي حاد اقتضى خضوعه لعملية زراعة نقي عظام من أجل إنقاذ حياته، وعندها كانت المفاجأة؛ إذ أظهرت نتائج دراستين تقييميتين لحالته -أُجريت إحداها بعد سنتين والأخرى بعد أربع سنوات من إجراء العمل الجراحي له- تراجعًا ملحوظًا في الأعراض المرتبطة بالفصام إلى حد كبير، كذلك أظهرت تحسنًا في الوظائف الاجتماعية لديه دون تغييرٍ يُذكَر بجرعات الأدوية المضادة للذهان المُستخدَمة في علاج الفصام.
ولكن؛ كيف حدث ذلك؟
أظهرت الدراسات الحديثة أنّ الآلية الإمراضية للفصام تعتمد على حدوث خلل في النظام المناعي، وأنّ علاجًا خلويًّا -كزراعة النقي- من شأنه تسهيل العمليات المضادة التي توازن الالتهاب عن طريق التنظيم المناعي.
علمًا أنّ هذه النتائج ستحدث تأثيرًا كبيرًا في مستقبل مرضى الفصام، ولكن؛ لا بدّ من إجراء دراسات أخرى للتأكد من الفوائد المحتملة لزراعة النقي بوصفها علاجًا أبديًّا للفصام.
وفي تقرير لحالة أخرى، تَثبُت إصابة مريض سليم يبلغ من العمر 68 عامًا بالفصام، وحدث ذلك بعد عملية زراعة خلايا جذعية عام 2007،علمًا أن المتبرع شقيقُه الذي يصغره بنحو عشر سنين وهو مصابٌ بالفصام منذ بلوغه.
ويذكر التقرير في بدايته أنّ هناك دليلًا قويًّا يثبت تدخل العمليات المناعية في الإصابة بالفصام؛ إذ ترتفع مستويات عشرين من الأجسام الضدية الذاتية على نحو ملحوظ لدى مريض الفصام مقارنةً بأقرانه الأصحاء، إضافةً إلى انتشار أمراض المناعة الذاتية AID -كالانسمام الدرقي والاضطرابات الهضمية وفقر الدم الانحلالي المكتسب وغيرها- بمعدلات مرتفعة بين مرضى الفصام.
والدليل الأقوى على ما سبق هو انخفاض معدل الإصابة بالفصام لدى الرجال الذي استخدموا الكورتيزون لعلاج أمراض جسدية، ولكن؛ من غير المؤكد أنّ هذه الحالات تؤدي دورًا كبيرًا لدى مرضى الفصام جميعهم أم لدى 30-40% منهم فقط.
إنّ السمة المشتركة بين مرضى المناعة الذاتية والحساسية الشديدة هي استجابتهم الإيجابية لزراعة الخلايا الجذعية.
وفي الحالة المذكورة في التقرير المنشور عام 2007، طوّر المريض أعراضًا ذهانية تشير إلى الإصابة بالفصام بعد أربعة شهور من عملية الزرع. وما يلفت الانتباه في الأمر أنه لا يوجد أحد مصاب بالفصام من أقارب المريض من الدرجة الأولى سوى المتبرع، كذلك لم يُظهِر المريض أيَّ أعراض لمرض نفسي أو عقلي سابقًا.
وفضلًا عن ذلك، أُجريت عملية الزرع بنجاح ولم يرفض جسمه الزرع ولم تحدث أي مضاعفات، ولكن؛ بعد أسابيع من عملية الزرع ظهرت لديه أعراض اضطراب عقلي وهلوسات وأوهام غريبة وصلت إلى التفكير بالانتحار والقتل فأحيل إلى عيادة الأمراض النفسية، ولم يكشف الفحص العصبي ولا التصوير بالرنين المغناطيسي للدماغ أي شذوذٍ فيه، ولم تظهر أيُّ اضطرابات استقلابية أو التهابات عامة أو أورام، إضافةً إلى أنّ نتائج البذل القطني كانت سليمة ولم تُلاحَظ أية إصابة بفيروسات أو بكتيريا أو فطريات.
وقد توفي المريض في عام 2010 لأسباب غير معروفة بعد إحالته للراحة في بيته؛ إذ لم يستجب لأي علاج.
وهنا تنفي الدراسة دور الوراثة في إصابته بالفصام؛ لأنه من النادر أن يظهر الاضطراب بهذا العمر المتأخر، ولا سيما لدى الذكور. ونفت الدراسة أيضًا دور الأمراض المناعية التي قد تكون انتقلت من أخيه إليه عبر الأنسجة المزروعة، فقد حُضِّر المتبرع جيدًا واتُّبِعت الإجراءات الوقائية كافة وبعناية قبل إجراء الزرع.
وتفيد الدراسة أنّ انتقال الفصام كان عن طريق الخلايا اللمفاوية؛ مما يثبت تورط الجهاز المناعي في الإصابة بالفصام. ولكن؛ لا يمكن البناء على حالة واحدة، فلا بدّ من إجراء دراسات أخرى لنجزم بذلك.
وعلى الرغم من ذلك؛ إنّ النتائج التي وصلنا إليها حتى الآن تفتح الباب لنظرية جديدة تنص على انتقال الفصام عبر زرع النقي!، ويفتح هذا الباب على نحو موارب لمستقبل جديد وواعد في علاج الفصام وغيره من الأمراض النفسية.
وأظهرت دراسة أخرى أُجريت على الفئران أعراضَ اضطرابٍ عقلي مشابه لأعراض الفصام؛ إذ أصبحت الفئران تخاف الاستكشاف وأكثر توترًا وعدائية ولا تشعر بالسعادة حتى عند شربها محلولَ السكر ولا تنام، وذلك بعد حقن أدمغتها بخلايا مأخوذة من بشر مصابين بالفصام.
وقد بدأ الباحثون هذا الأمر بأخذ خلايا جلدية من خمسة أشخاص أُصيبوا بالفصام وهم أطفال ومن ثلاثة متطوعين أصحّاء، ثم حوّلوها إلى خلايا جذعية كتلك الموجودة في الأجنة البشرية، وبعدها إلى خلايا بشرية تصنع الخلايا الدبقية، ثم حقنوها في أدمغة بضعة عشر فأرًا حديث الولادة وراقَبوا ما حدث.
وقد لاحظوا أنّ الخلايا الدبقية المأخوذة من مرضى الفصام انتشرت بسرعة في أدمغة الفئران، ولكن لم تكن الخلايا التي تولّدها قادرةً على الاستمرار فترة كافية لتشكيل المايلين (النخاعين)؛ أي تشكيل المادة الدهنية المحيطة بالخلايا العصبية التي تساعد على نقل الإشارات الكهربائية التي تشكل الأفكار والعواطف. وما يلفت الانتباه أنّ أدمغة المصابين بالفصام تتميز بانخفاض المايلين أيضًا، ولا سيما عند الإصابة به في الطفولة.
كذلك لم تعد الخلايا الدبقية قادرةً على التحول إلى الخلايا النجمية التي تربط الخلايا العصبية بعضها ببعض، وإن حدث وتحولت فتكون مشوهة وتؤدي إلى تشكيل شبكة عصبية مشوهة، وقد افتُرِض أنّ الخلل يكمن في عيب في الخلايا الدبقية.
ومن أجل تقصّي مصدر المشكلة؛ تحرّى الباحثون الجينات في المادة الرمادية المأخوذة من مرضى الفصام لمعرفة أي جينات كانت تعمل وأيها كانت معطلة، وذلك مقارنةً بالمادة الدبقية المأخوذة من أصحاء.
وقد وجدوا أنّ ١١٨ جين يعمل عندما يجب أن يكون عاطلًا، في حين يكون عاطلًا عندما يجب أن يعمل. فما الذي سبّب هذا الخلل؟!
وأخيرًا؛ في إحدى الحالات احتاج مريض فصام عمليةَ زراعة قلب، وكان هدف تقرير هذه الحالة هو نشر الوعي والدفاع عن حق مرضى الفصام بإجراء مثل هذه العمليات التي تُمنَع عنهم بحجة أنهم غير قادرين على إدراك ما يحدث أو اتباع التعليمات والإجراءات الوقائية اللازمة، إضافةً إلى أنهم قد يتصرفون بعدائية ظنًّا أنّ الأطباء يحاولون قتلهم.
وقد أجرى المريض زراعة قلب ناجحة ولم يغب عن مراجعة العيادة النفسية بانتظام وأظهر تحسنًا نفسيًّا واضحًا؛ إذ أصبح قادرًا على وصف طبيعة الهلوسات التي تصيبه وازدادت ثقته بالمعالجين.
وعند سؤاله عن قلبه الجديد قال: "قلبي القديم لم يكن يعمل فحصلت على واحد جديد"، ثم أردف مبتسمًا: "قلبي الجديد لصبيّ يبلغ ستة عشر عامًا، وهذا يجعلني أصغر!".
ويستمر الباحثون في سبر أغوار الأمراض النفسية وتقصّيها ليمنحوا المرضى قلبًا وأملًا جديدَين بغدٍ مشرق.
المصادر:
1- هنا
2- هنا
3- هنا
4- هنا
5- هنا
6- هنا