الهندسة والآليات > منوعات هندسية
الحوسبة الإدراكية (٢)
لم تبنِ شركة IBM دماغًا بشريًا عن طريق رقاقتها المدعوة TrueNorth، لم تبنِ أي دماغ أصلًا. إن الذي قدمته الشركة هو تصميمٌ رقمي يستوحي تفاصيله من الدماغ البيولوجي، ولأن تصميم الشريحة مختلف للغاية، فإن تقنيات الحوسبة التقليدية لن تجدي نفعًا في التعامل معها. إن محاولة تشغيل برنامجٍ بلغة C++ على شريحة TrueNorth أشبه باستخدام مطرقة ضخمة لإدخال برغي، وقد دفع ذلك القائمين على المشروع إلى بناء نظام جديد كامل من البداية حتى النهاية؛ لغة برمجة جديدة، وتطبيقات متخصصة جديدة، ومقررات تعليمية جديدة عن الرقاقة وأنظمة التعامل معها. (١)
في استراليا، وضمن مختبر شركة IBM، يعمل الباحث ستيفن هارير Stefan Harrer مع طبيب عصبي زميل له في جامعة ملبورن الاسترالية على تطوير نظام يعالج موجات الدماغ البشري ويتنبأ بنوبات الصرع المحتملة الحدوث قبل وقوعها، إذ يُبنى النظام باستخدام الشبكات العصبونية، ويُختبر باستخدام رقاقة TrueNorth.
ويأمل العلماء أن تتوفر هذه التقنية في الأجهزة الذكية التي نرتديها، كالساعة الذكية مثلًا، ويشترط لهذه التقنية أن تحلل الموجات الصادرة عن الدماغ باستمرار وفي الوقت الحقيقي دون أي توقف كي تكون فعالةً حقًا. ويعدُّ استهلاك رقاقة TrueNorth المنخفض جداً من الطاقة الكهربائية (كما أوضحنا في مقالنا السابق) السبب الأساسي في إتاحة الفرصة لوجود تقنيةٍ كهذه خارج مختبرات البحث العلمي (٢).
وبالنظر إلى الشركات العملاقة مثل فيسبوك (Facebook)، وغوغل (Google)، ومايكروسوفت (Microsoft)، نجد أنهم يشغلون خوارزمياتهم الذكية ضمن كمبيوترات عملاقة في مراكز البيانات التابعة لهم، فحواسيبنا الشخصية أو هواتفنا الذكية لا تشغل تلك الخوارزميات عندما يختبر أحدنا ميزة التعرف على الوجوه ضمن الصور التي يرفعها إلى فيسبوك مثلًا، بل تتواصل مع خوادم الشركة عن طريق شبكة الإنترنت وتحصل على البيانات منها. لكن هذا على وشك التغير مع رقاقة TrueNorth، إذ تأمل الشركة بتشغيل خوارزميات تعلم الآلة محليًا ضمن الهاتف الذكي أو عن طريق شريحة صغيرة مزروعة ضمن يدك! (٢)
وإذا ما عدنا إلى مفهوم الحوسبة الإدراكية الذي بدأنا منه، وجب علينا التنبيه للأشكال المتعددة التي تأخذها الحوسبة الإدراكية والمناحي المختلفة التي تتناولها، فهي لا تنحصر في رقاقة IBM والأوراق البحثية شديدة التعقيد، بل بدأت تطبيقاتها تؤثر في حياتنا اليومية أيضًا، إذ تعد خدمة بحث المحتوى الشهيرة Netflix أحد أبرز الأمثلة على ذلك، فهي تستخدم خوارزميات تعلم الآلة لترشيح محتوى المشاهدة بناء على تفاعل المستخدم الشخصي مع الخدمة (٣)؛ أي إن مشاهدة أكثر تعني معلومات أكثر وترشيحات أدق.
لكن أنظمة الحوسبة الإدراكية ما زالت تعاني من بعض المشكلات والقيود التي يجب علينا الإحاطة بها قبل أن نتمكن من إيجاد حلول لها، فنجد مثلًا أن أخذ السياق بالحسبان وتقييم المخاطر الناتجة عن قرار معين ما زالا منقوصين ويحتاجان إلى تدخل بشري، إذ ليس بمقدور خوارزمية تبحث عن وجود النفط في بلد معين أن تأخذ بعين النظر حقيقة الوضع السياسي المتأزم في ذلك البلد عند اتخاذ قرار بدء الحفر والتنقيب عن النفط. كذلك تعد مسألة الخصوصية عاملًا إضافيًا شديد الحساسية في مسألة تبنّي هذه الأنظمة على نطاق أوسع، إذ ينبغي اتخاذ إجراءاتٍ تحول دون التعدي على الخصوصية عند إتاحة وصول تلك الخوارزميات إلى بيانات حساسة لدى هذه الشركة أو تلك. (٣)
ومما لا شك فيه أن الحوسبة الإدراكية هي الخطوة القادمة في مجال الحوسبة الذي بدأ بالأتمتة (٣)، وعلى الرغم من معاناتها من بعض المشكلات والقيود، لكنها اختبرت أيضًا قفزات هائلة على صعيدي الابتكار والتطبيق. وقد ساهمت رقاقة IBM المدعوة TrueNorth برفع توقعاتنا المستقبلية لما هو ممكن تكنولوجيًا، وأدى التعاون بين مجالي التكنولوجيا والطب إلى ظهور تطبيقات قد تغير حياة الملايين في السنوات القليلة القادمة.
المصادر:
1- هنا
2- هنا
3- هنا