كتاب > روايات ومقالات
أقصى أحلام الفقراء
كلما كبرت أحلامنا زادت المشقة، والعكس صحيح؛ وهكذا، لن يكون هناك مشقة كبيرة إن اقتُصِر على حلم بسيط؛ كامتلاك معطف مثلًا، ولربما هذا ما قد نعتقده للوهلة الأولى عندما نقرأ قصة إنسان اكتفى بما قدمته إليه الحياة؛ منزل صغير يخلو من أي أثاث ذي قيمة تقريبًا، وعمل في نسخ الأوراق مقابل قليل من المال، ومعطف عاصر سنينًا أطول ممَّا قد تفعله بعض الأبنية السكنية.
ولم يكن مقدار السخرية التي قد يتعرَّض لها مهمًا، ولا كمية العمل الواجب إنهاؤه؛ بل كل ما كان يهمه هو الجودة والإخلاص إلى أبعد الحدود، والوقوع في غرام نُسَخ الورق أيضًا، إلى أن أصبح هذا العمل محور حياته الأساسي وسبيل سعادته، فهذا هو مبدأ أكاكي أكاكيفيتش في هذه الحياة؛ الإنسان الغريب باسمه أيضًا، فقد كان بلا أيِّة عائلة وأيِّ أصدقاء، وهو الموظف الذي لم ينل حظًّا وفيرًا من ثروات هذه الحياة.
تبدأ القصة مع هبات رياح الشتاء القارص، حينما يذهب البطل إلى خياط يعيش في المبنى السكني ذاته؛ ليعرض عليه معطفه من أجل إجراء بعض الإصلاحات، ولكنَّ الإجابة كانت غير متوقعة، لا وبل كانت صادمةً كَوْنها جاءت في الوقت غير المناسب: "لا يمكن إصلاح المعطف، أنت في حاجة إلى شراء معطف جديد".
ويُتمتم أكاكي بعدها محاولًا أن يواسي نفسه كغريقٍ يتعلَّق بقشَّة: "أثق بأنَّ رأي ذلك الخياط قد يتغير عندما أعود في أثناء فترات ثمالته".
ولكن على الرغم من كل محاولات أكاكي للتمسُّك بأيَّ أمل مُتبقٍّ، لم تتغير حقيقة الحال، وكان لا بدَّ من التماشي مع الواقع، ومع أنَّ قدرته المادية كانت في أضيق حالاتها تقريبًا، ولكنَّ الحياة أخرجت لفحات من كرمها كالهدوء الذي يسبق العاصفة؛ فقد مُنِح الموظف المتفاني علاوةً زائدة حتى عن المتوقع، ومع إضافة هذا إلى ما معه من نقود، كان ذلك كافيًا لتحقيق الحلم أخيرًا؛ خياطة معطف جديد!
وهكذا، كان المعطف الجديد قادرًا على جعل أكاكي ذي الحظ العسير أسعد إنسان في الوجود؛ من ناحية الذهاب لتفقد أنواع الخيوط والياقات، وانتقاء الاختيارات الأشد جودة كمعاطف الأسياد تمامًا.
وكفرحة الأم برؤية مولودها الأول احتلت الابتسامة أركان وجه أكاكي بأكملها، فمن الآن وصاعدًا بات جسده يحمل معطفًا جديدًا وجميلًا؛ إذ إنَّه نال اهتمام الموظفين جميعًا من حوله، واستحضر الانتماء لبطلنا من جديد.
ولكنَّ الأمر لم يَدُم طويلًا، فحال المعطف كحال معظم الأحلام التي تأتي بعد طول انتظار وتذهب سريعًا مثلما ذهبت مع عودة بطلنا من حفلة دُعِيَ إليها، وهي الحفلة التي احتوت على تجمُّعات لم يعتد عليها، ولا على المتعة التي لم يتوقع أن تُصاحبها، فعاد متأخرًا باتجاه حيِّه ذي علامات البؤس اللامتناهية بعد أن انتهى حلم أكاكي في غمضة عين.
ولم يستطع قلبه المسكين احتمالَ انقضاء ذلك الحلم البسيط، وحُمَّى الشتاء التي استغلَّت غيابَ درعه الدافئ الذي بذل من أجله كل قطرة عرق مُتبقية لديه، فلا تبرعات بعض الموظفين المتعاطفين كانت كافية ولا مال مُتبقٍ لشراء معطف آخر، فسقط بطلنا جراء ما حصل ضحيةً تحت رحمة الفراش، وما بين مفترق الحياة والموت تصبح ذاتنا أشد قيمة، فمن بعد الرحيل هناك شيء يُضاف إلى قسوة هذه الحياة.
إلى أن يظهر حق أكاكي المسلوب ليجتاح عامة الناس فجأة -من آذوه منهم ومن تجاهلوه- ليتحوَّل اسمه من نكرة إلى اسم علمٍ معروف، وهو الحق الذي دفع العامة إلى توجيه الانتباه بكامله تجاه القضية التي اجتاحت البلاد.
لتصبح "قصة المعطف" بهذا حكايةَ عامة الشعب ومَوضع كل قائل، والعمل الأدبي الذي جاء من أبرز كتابات أحد أعظم الكتاب ضمن الأدب الروسي (نيكولاي غوغول)؛ الذي قدَّم إلينا جرعة مُركَّزة من الأحاسيس التي تستملك الذات البشرية في بضع صفحات، إنَّها قصة لا بدَّ لكل قارئ من التمتع بلذة قراءتها.
معلومات الكتاب:
الكتاب: قصة المعطف
الكاتب: نيكولاي غوغول
ترجمة: محمد الخزاعي.
عدد الصفحات: 60 صفحة.
تاريخ النشر: 2011.
دار النشر: الدار العربية للعلوم ناشرون