البيولوجيا والتطوّر > بيولوجي
كائنات تعيش في أكثر الأماكن عدائية للحياة!
إذا كنت تنوي الذهاب في رحلة، فما هي الظروف التي يجب أن تتوافر في المكان المقصود؟
أعتقد أنها حرارة بحدود 25 درجة مئوية، رطوبةٌ معتدلة، هواءٌ نقي، لا تريد مكاناً مرتفعاً جداً أو منخفضاً جداً لكي لا تتأثر بالضغط المنخفض أو المرتفع.
حسناً، لكن لكلٍّ مزاجه الخاص، فبعض الكائنات عزيزي القارىء لن تذهب معك في رحلتك فلديها ظروفٌ أخرى تحبذها، منها من يحب العيش في النار أو الجليد، و بعضها الآخر يعيش في أوساط شديدة الحموضة لدرجة أنها يمكن أن تجعل كل المعادن تتآكل بشكلٍ رهيب و غيرها يفضل أن يعيش في قلب الصخور القابعة في الكهوف تحت سطح الأرض و آخرون على النقيض من ذلك قد يسبحون في الفضاء بلا أي وقاية، و إذا كنت تحب أنت أن تتشمس بأشعة الصباح، فبعضهم يتشمس – إن صحّ التعبير – بالأشعة النووية كأشعة غاما و يقضي بقية يومه سعيداً، صدقوني، أنا لا أبالغ، هناك كائناتٌ بهذه المواصفات و ربما أشد، لكن و قبل الحديث عنها دعونا نلقي نظرةً على هوية هذه الكائنات وكيف تفعل ذلك ؟
نسمي الكائنات التي تعيش في ظروف متطرفة بالـ Extremophile أي محبة الظروف القاسية.
إنّها تعيش في ظروفٍ متطرفةٍ من حيث الحرارة (شديدة الارتفاع أو الانخفاض) أو الضغط (شديد الارتفاع أو الانخفاض) و الحموضة(شديدة الارتفاع أو الانخفاض)، لكن كيف ذلك؟ إني لا أعتقد أنها تستعمل السحر و بالتالي ف (هاري بوتر) لا يعرف الجواب، ولذلك فلنسأل -بالطبع- العلم!
إنَّ التفاعلات الكيميائية التي تحدث في أجسامنا و التي تحدد شكلنا و طبيعة جسمنا و تشعرنا بالبرودة أو الجوع، تُنَظَّم بواسطة الأنزيمات، و هي بروتيناتٌ يقوم الجسم بإنتاجها، و لكي تستطيع مقاومة الظروف الشديدة من حيث مقاومة البرودة و الجوع و ما إلى ذلك فأنت بحاجةٍ إلى تفاعلات شديدة، والتفاعلات الشديدة بحاجة إلى أنزيمات شديدة Extremoemzyme و هذه هي الورقة الرابحة لدى الكائنات المحبة للظروف القاسية، إنها تملك هذه الإنزيمات التي تستطيع تحمل الظروف القاسية و تنظيم التفاعلات في شروطٍ لا تستطيع الإنزيمات العادية العمل فيها .
و الآن لمَ الإطالة؟ فلنبدأ بالتعرف على أبطالنا ....
الكائنات المحبة للحرارة المتطرفة Thermophile and Cryophile
سآخذكم الآن في رحلة غطسٍ إلى المحيط الهادىء، ليس لمشاهدة الحيد المرجاني، فهناك أشياء أجمل تأسرنا، إنها " الفوهات الحرارية" أو Hydrothermal vents، وهي فتحاتٌ في القشرة الصخرية المحيطية – الخاصة بالمحيط – تندفع منها المياه المتعرضةٌ لضغطٍ عالٍ جداً معطيةً مياه حارقة تصل درجة حرارتها إلى 121 درجة مئوية.
نظرياً، لا وجود للحياة هناك، فأعلى درجةٍ تتحملها الفقاريات هي 50 درجة مئوية أما البكتريا فقد تتحمل 60 لكن دون القدرة على القيام بالنشاطات الحيوية بالشكل الأمثل، لكن كنوز المحيط لا تقتصر على ذهب القراصنة و هياكل السفن بل تتعدى إلى ما هو أروع، إنها تحوي سلالةً من البكتريا تُسمى السلالة 121 و التي تعيش حول حواف الفوهات الحرارية، و هي قادرةٌ بفضل إنزيماتها الخاصة على مضاعفة كامل غلافها الخلوي خلال 24 ساعة لتؤمن لنفسها الحماية، و هي لا تحمي نفسها فحسب بل و تنشىء علاقاتٍ حيويةً مع كائناتٍ أخرى لتساعدها- تساعد الكائنات - في مهامها الحيوية، يبدو أن السلالة 121 ليست قادرةً على صيانة نفسها فقط بل و على تقديم فرص الحياة للآخرين – إن صح التعبير - !
Hydrothermal Vent
و كما قلنا في المقدمة، فهناك كائناتٌ تعيش في النار و الجليد، وقد تحدثنا عن النار، فماذا عن الجليد ؟
لدينا مرشحان لهذا المنصب: الأول هو سمكة القطب الجنوبي المتجمد، هذه السمكة من صف الفقاريات، تستطيع أن تعيش في درجة حرارةٍ تصل إلى الصفر المئوي، وهذا ما تعجز عنه باقي الفقاريات بالتأكيد وهذه هي صورتها لمن أراد أن يصوت لها !
لكن مهلاً، ألا تبدو هذه السمكة شفافة؟!! إنه دمها، شفافٌ بكل معنى الكلمة و السبب في ذلك عدم احتوائه على بروتين الهيموغلوبين الذي يعطي دم الفقاريات اللون الأحمر، و إذا لم تندهش، فأخبرك بأن دمها لديه بروتينٌ آخر يُستعمَل كمانع تجمد مما يسمح لها بالعيش في هكذا ظروف.
و بعد فإذا كنت من النوع الذي يصعُب إرضاؤه مثلي، و لم تَرُق لك هذه السمكة كثيراً فدعها و لنذهب إلى مكان أكثر برودةً و أشدّ إدهاشاً، فلننتقل من حدود القارة المتجمدة إلى مركزها بالتحديد إلى بحيرة فوستوك Vostok حيث كان مجموعةٌ من العلماء يحفرون ثقباً في البحيرة وصل عمقه إلى 3.2 كيلومتر و كانوا يستعملون مركبات الفريون لمنع الحفرة من التجمد و الانغلاق، و فجأة، حدث ما لم يكن في الحسبان، استطاعوا اكتشاف نوعٍ جديدٍ من البكتريا يعيش تحت تلك الطبقات من الجليد، يبدو أننا سنصوت لهذه البكتريا و ليست لسمكة القطب الجنوبي، ألا توافقونني؟!
كائنات تتشمس بالأشعة النووية :
أعتقد عزيزي القارىء أنك و بعد قراءتك عن الكائنات التي تعيش في أشد درجات الحرارة انخفاضاً أو ارتفاعاً، أصبحت تدرك أن عبارة "الظروف المناسبة" هي عبارةٌ تخصنا نحن البشر و ما يناسبنا قد لا يناسب غيرنا من الكائنات، و الشعور الذي تشعر به عندما تضع يدك في ماءٍ مغلي لا يشابه شعور السلالة 121 التي تحدثنا عليها – محبات الحرارة العالية- فهي تعتبرها حرارةً منعشة !
و كذلك، فعندما أقول لك أن 5 غراي (واحدة لقياس شدة الإشعاع النووي) تكفي لقتل البشر،و عندما أقول لك أن 30،000 غراي أي 6000 ضعف الكمية الكافية لقتلنا، تمثل شروطاً مناسبةً للبكتريا المسماة Thermococcusgammatolerans، عندها لا ترفع يدك معترضاً، فهذه الكائنات لم أخترعها أنا عندما كنت جالساً على الشرفة، و إنما اكتشفها العلماء عام 2003 بالقرب من ساحل كاليفورنيا.
على كلٍّ لن تكون وحدك المندهش، فالعلماء أصيبوا بالدهشة كذلك عندما كانوا يحاولون تطهير قطعةٍ من اللحم عن طريق الأشعة لكنهم وجدوا أن الـDeinococcusradiodurans ما زالت على قيد الحياة!
Deinococcusradiodurans
مصدر الصورة: موسوعة Wikipedia
الكائنات المحبة للحموضة Acidophile:
بالقرب من مناجم استخراج المعادن أو من البحيرات البركانية تصل حموضة الماء إلى حدٍّ شديدٍ جداً (PH=2) لا تهتم لهذا الرقم إذا لم تكن كيميائياً، فقط ضع في ذهنك أن هكذا حموضة تجعل الماء حمضياً جداً وتبدأ المعادن بالتآكل مما يجعل الوسط ساماً، فهل هذا الوسط مناسبٌ للحياة؟ لقد اتفقنا قبل قليل أنّ ما لا يناسبنا قد يناسب غيرنا و يروق له .
فلنتعرف إذاً على Cyanidium caldarium المتحملة للحموضة، و بما أنك أكملت قراءة المقال إلى هذا الحد فسأفترض أنك لا ترضى بالقليل فإليك Ferroplasmaacidarmanus والتي تقاوم إلى جانب الحموضة الأوساط المتسممة بالمعادن المتآكلة و هي لا تستطيع العيش إلا في هذه البيئة – حموضة عالية و كميات كبيرة من المعدن- .مذهل أليس كذلك؟
الكائنات المحبة للملوحة Halophile :
و الآن سآخذكم إلى بحيرة مونو Mono Lake و إذا كنتم لا تجيدون السباحة فلا مشكلة البتة، فهذه البحيرة مالحةٌ جداً، لدرجة أنها تسمح للسباح بأن يطفو بشكلٍ ذاتيٍّ تماماً،لكن بالطبع لن آخذكم للسباحة، بل لمقابلة البكتريا Spirochaetathermophila التي تستطيع تحمل هذه الملوحة الشدية في البحيرة و القيام بنشاطاتها الحيوية المختلفة، و ذلك عن طريق مجموعةٍ من الإنزيمات الخاصة التي تنظم البيئة الداخلية في الخلية البكتيرية و تحميها من البيئة الخارجية المالحة و المتصفة بالقلوية (عكس الحموضة)، هذا من ناحية، و من ناحيةٍ أخرى فإن هذه الكائنات ذات تنفسٍ لا هوائي، أي أنها لا تعتمد على الأوكسجين في نشاطات الاستقلاب بل لا تستطيع العيش بوجوده، وعوضاً عن ذلك تعتمد على الكبريت و يشاركها هذا المسكنَ الغريب بعض أنواع الطحالب و الذباب . هل تجدون هذه البحيرة كريهة ؟ أنا أجدها رائعة، فهي تشبه بمواصفاتها بعض البيئات على المريخ وسنتحدث عن أهمية ذلك بعد قليل.
بحيرة مونو
دب الماء Water Bear:
هذا هو بطلي المفضل بالتأكيد، إنه ليس وحيد خليةٍ كما هو حال معظم أبطالنا السابقين بل هو حيوانٌ لا فقاري بثمانية أرجل، قادرٌ على تحمل مجموعةٍ كبيرةٍ من الظروف شديدة التطرف فهو يستطيع السباحة في الفضاء لمدة عشرة أيام دون أي حماية أي في ضغطٍ يساوي الصفر، متعرضاً بذلك للإشعاع الشمسي مباشرةً دون أن يتأذى، و على النقيض من هذه الحال، فإنه يستطيع تحمل ضغطٍ يصل إلى 6000 atm ولك فقط أن تعلم أن الضغط على سطح البحر و الذي تتعرض له أجسامنا هو 1 atm فقط!
وقد أشار أحد الأبحاث عام 2012 إلى أنّ دب الماء قادرٌ على العيش في درجة حرارةٍ قريبةٍ من الصفر المطلق أي بحدود -270 درجة مئوية.
و تجدر بي الإشارة إلى أن الكائنات المحبة للظروف المتطرفة ليس لديها مفتروسون أو أعداء وذلك لعدم وجود كائناتٍ أخرى في بيئتها وإن وجِدت فهي شديدة الندرة مما يوفر لها الحماية.
Tardigradeدب الماء
مصدر الصورة: الحلقة الأولى من مسلسل "الكون"
والآن لا بدّ أن بعضكم بدؤوا يتساءلون: ماذا تفيدنا دراسة هذه الكائنات الغريبة؟
وهذا ما سيجيب عنه مقالنا القادم بعنوان: ماذا نتعلم من دراسة الكائنات المحبة للظروف العدائية للحياة ؟
انتظرونا !
المصادر:
1- هنا
2- هنا
3- هنا
4- هنا
5- هنا
6- هنا
7- هنا
8- هنا
9- هنا
10- هنا
11- Scientific American April 1997،Extremophile و للتحميل من الانترنت:
مصدر الصورة: