الطب > مقالات طبية
الخلايا الجذعية في موضع اتهام، والتهمة؛ السرطان
لا يسعنا إلا أن نكون ممتنِّين لخلايانا الجذعية Stem cells؛ فهي الأساس لكلٍّ من التطور والمحافظة على الصحة منذ المراحل الجنينية وحتى البلوغ. فالخلايا الجذعية الجنينية تعطي الخلايا السليفة وتحدد كيفية تشكُّل الأعضاء والعضلات والأوتار والهياكل، وكذلك تنظيمها في الجسم.
وبعد إنهاء مَهمَّتها؛ تترك خلفها مجموعةً من الخلايا الجذعية الداعمة بهدف إصلاح الأنسجة كما تتطلب الحاجة.
إضافة إلى ذلك تفتح الخلايا الجذعية مجالًا واعدًا لإنقاذنا من أمراض لا تستطيع الأدوية سوى إزالة أعراضها، فسوف تُدرَج عاملًا قادرًا على ترميم أو إعادة بناء النسج والأعضاء المخرَّبة. ولكن هناك وجهًا آخرَ للحقيقة؛ فهناك خلايا جذعية من الممكن أن تكون مصدرًا لبعض -في الحقيقة معظم- السرطانات؛ حيث تترصد في مكان ما ضمن كل ورم. (1)
تختلف الخلايا الجذعية الطبيعية Normal stem cells عن تلك السرطانية Cancerous stem cells؛ فالأولى هي خلايا نادرة توجد ضمن العضو وتكون مسؤولة عن تجديد نفسها وأيضًا تعطي جميع أنماط الخلايا الموجودة ضمن العضو؛ وبذلك تُولِّد الأعضاء. أما الثانية فهي أيضًا خلايا نادرة لكنها تكون موجودة ضمن الورم وتكون قادرة على تجديد نفسها، وظهور الأنماط الظاهرية المختلفة الموجودة ضمن جمهرة الخلايا السرطانية؛ وبذلك تُولِّد الأورام، وفي الحقيقة فإن هذا التغاير في النمط الظاهري والقدرة الوظيفية هو أحد أكثر الصفات المميزة للخلايا السرطانية على اختلاف أنماط الأورام.(3)
تتميز الخلايا الجذعية بأنها تعيش فترة أطول من الخلايا العادية، إلا أن ذلك يزيد من فرصة تراكم الطفرات الجينية Genetic mutations التي قد تطرأ عليها؛ إذ إن تراكم عدد من الطفرات قد يجعل الخلية الجذعية تفقد السيطرة على تجدُّدها ونموها لتصبح مصدرًا للسرطان.
تعود أصول فرضية أنّ البقايا الجنينية الخاصة بنا قادرة على إهلاكنا بالسرطان إلى عام (1829)، ففي منتصف القرن التاسع عشر توجهت الفرضيات والاعتقادات إلى أن الأورام ذات صلة بنمو النسج الجنينية، و بلغت هذه الافتراضات ذروتها عندما أطلق Julius Cohnheim نظريته الشاملة عام (1875) التي نصّت على أنّ الأورام قد تنشأ من الخلايا الجنينية المتبقية من عملية التطور الجنيني؛ إذ قد تبقى هذه الخلايا هاجعة إلى أن تُفعَّل فتتحول إلى خلايا سرطانية.
أما اليوم، فالنظريات السائدة عن مشاركة الخلايا الجذعية في تشكيل السرطان ما هي إلا تحديثات أجريت على النظرية السابقة؛ إذ نستطيع الآن -وبعد 150 سنة من اقتراح الفرضية- تحديدَ هُوية الخلايا الجذعية الموجودة داخل الأورام عن طريق واسمات بروتينية على سطحها.
ومنه؛ إذا كانت الأورام ناشئة عن بعض الخلايا الجذعية، فإن ذلك يفسِّر فشل كثير من العلاجات التي تُصغِّر حجم الورم في القضاء على السرطانات نهائيًّا. فهذه العلاجات عمومًا تستهدف الخلايا الآخذة بالنمو السريع مما يعني أن الخلايا الجذعية البطيئة ستبقى غير متأثرة؛ إذ يُعتقد أن الخلايا الجذعية هي المسؤولة عن مقاومة المعالجة الكيميائية و عن النكس ومعاودة المرض.(1)
بناء على ذلك؛ يترتب على قيادة مجموعة صغيرة من خلايا السرطان الجذعية آثار مهمَّة؛ فكثير من العلاجات الجديدة المضادة للسرطان طُوِّرت اعتمادًا على قدرتها على تصغير الورم، لكن إذا لم تقض المعالجة على الخلايا الجذعية السرطانية؛ سوف ينمو الورم من جديد بعد فترة، وغالبًا سيكون قد شكَّل مقاومة قوية ضد المعالجة التي كانت مستخدمة في السابق.
ومن الجدير بالذكر أيضًا أن الخلايا الجذعية السرطانية هي التي تعطي نقائل وتُشكِّل مخازن للخلايا السرطانية، فذلك قد يكون المسبب للنكس حتى بعد دور العمليات الجراحية، أو المعالجة الشعاعية أو الكيمائية بإزالة جميع علامات السرطان التي يمكن ملاحظتها.
أحد اتجاهات نظرية الخلايا الجذعية السرطانية هو كيفية تطور السرطان؛ فلكي تتحول خلية طبيعية إلى خلية سرطانية عليها الخضوع لعدد من التغيرات على تسلسلات الحمض النووي DNA التي تتحكم بالخلية.
فالنظرية السرطانية التقليدية تقول بأن أية خلية في الجسم يمكنها أن تخضع لهذه التغيرات و تتحول إلى خلية سرطانية، أما الباحثون من مركز Ludwig يؤكدون أن الخلايا الجذعية الطبيعية وحدها القادرة على تجديد نفسها و بذلك البقاء على قيد الحياة فترة تكفي لتراكم التغيرات اللازمة لإحداث السرطان، ومنه فإن الخلايا الجذعية السرطانية تنشأ من الخلايا الجذعية الطبيعية أو الطلائع التي تنتجها.
يقوم محور آخر من محاور نظرية الخلايا الجذعية السرطانية على أنّ الخلية الجذعية السرطانية مشابهة للخلية الجذعية الطبيعية في كثير من السلوكيات والصفات؛ وبذلك ستتسم بأنها مجددة لنفسها، وذات حياة طويلة، وكامدة في مكانها نسبيًّا، وبعيدة عن تأثيرات الجواب المناعي، ثم إنها تكون متعددة القدرات وقادرة على المساهمة في التغاير الذي تتسم به الخلايا السرطانية، و غير قابلة للخضوع للاستموات الطبيعي Apoptosis، ولا تتأثر بالأدوية.(2)
وعليه فإن تباين خطر الإصابة بالسرطان بين نسيج وآخر من الممكن تفسيره عند النظر إلى عدد مرات انقسام الخلايا الجذعية فيه؛ إذ إن هناك أنماطًا من النسج تُولِّد السرطانات ملايين المرات أكثر من غيرها، فمن جهة يقدر تباين خطر الإصابة بالسرطان ذي المنشأ البيئي أو الوراثي بالثلث، أما الغالبية العظمى فتحدث بسبب "الحظ السيئ"؛ أي الطفرات العشوائية.
أما الآن فالسؤال الأهم؛ كيف يمكن استخدام هذه النظريات في معالجة السرطان ومنع معاودته؟
ما دامت الخلايا الجذعية السرطانية متهمة في كونها المسبِّب الرئيس الذي يدفع انتشار النقائل ومقاومة العلاج؛ يصبح استهداف الخلايا الجذعية السرطانية إستراتيجية مفيدة لتحسين فعالية المعالجات المضادة للسرطان التقليدية؛ فعلى الرغم من أنها تُشكِّل نسبة ضئيلة لدى كتلة الورم الكلية إلا أننا بجمع ذلك مع العلاجات الحالية قد نحصل على علاجات أخرى تكون ذات استجابة كاملة ومديدة.
ورد أول ظهور لهذه الإستراتيجية العلاجية بدراسة حديثة؛ إذ حُدِّد صنفٌ من الخلايا الجذعية التي تسبب حدوث ورم الميلانوما Melanoma (سرطان الجلد) في أنموذج حيواني، وعُيِّن ضدَّ antibody يبطئ من نمو الورم عن طريق استهداف هذه الخلايا الجذعية خصوصًا.
هناك تحديات تواجه بحث الخلايا الجذعية السرطانية، فهي ليست بالأمر السهل، نذكر بعض هذه الصعوبات:
1. القدرة على وصف الخلايا الجذعية السرطانية والتعرف إليها عندما تكون بمرحلة خلية وحيدة.
2. فهم الآليات الجينية وفوق الجينية والكيميائية الحيوية التي تتحكم بالنمط الظاهري لتجدد هذه الخلايا الذاتي، والانقسام غير المتناظر، ودور عش الخلايا الجذعية في التحكم بالخصائص البيولوجية لكل من الخلايا الجذعية الطبيعية والسرطانية.
3. كيفية وصف استجابة الخلايا الجذعية السرطانية لنظم المعالجة الكيميائية.
4. تطوير إستراتيجيات علاجية لاستهداف الخلايا الجذعية بهدف تجنُّب نكس الورم، مع التقليل من السمية التي تتعرض لها الخلايا الجذعية الطبيعية.(2)
وفي الختام؛ لا يسعنا سوى القول أنَّ حربنا مع السرطان لا تزال طويلة وشاقة. لكن بفضل التقدم العلمي المتسارع الذي نشهده فها نحن نقترب باتجاه إيجاد الحل متيقنين أنّ العلم هو الحل.
المصادر:
1- هنا
2- هنا
3- هنا
4- هنا