الفلسفة وعلم الاجتماع > علم الأخلاق وعلم الجمال
الموسيقا من رؤية فلسفية
امتد أثر الموسيقا في ثقافة الشعوب منذ الحضارات القديمة حتى عصرنا الحاضر، فعُدَّت الموسيقا في المجتمعات الإغريقية من أهم طرائق التعبير؛ إذ بدأ جمع قصص الآلهة والأبطال عن طريق التقاليد الشعرية الشفهية، وولدت الموسيقا عند الإغريق في جزيرة كريت مع ولادة الإله زيوس والد جميع آلهة الأولمب، ومع ولادة أبولو إله الموسيقا والضوء[1]، ويقول الفارابي في كتابه الشهير (كتاب الموسيقى الكبير): "كان علماؤهم -علماء اليونان- يعدّون معرفتهم بالموسيقا من مستلزمات التعاليم النظرية والفلسفة، وإلى اليونان يرجع الفضل في تعريف أصول ومبادئ الموسيقا".[3]
ومنذ ذلك الحين انشغل الفلاسفة والمُفكرون في طبيعة الأنغام والمقامات الموسيقية وقدرتها على التأثير في النفس وقيمتها الأخلاقية والتربوية وعلاقتها مع الشعر؛ فهل تستطيع الموسيقا أن تعبّر بوسائلها الخاصة دون الاعتماد على الكلمات الشعرية؟ وتساءلوا عن كيفية استجابة المستمع للموسيقا؛ فهل يتدخل عقله أم ينفعل بحسه وشعوره فقط؟
وبحلول القرن التاسع عشر ارتفع شأن الموسيقا الآلية (الموسيقا الخالصة أو البحتة) وظهور مدى قدرتها على الاستقلال في التعبير، وزخر هذا القرن بالفلسفات الموسيقية التي بحثت في معنى الموسيقا وطبيعتها وقيمتها وعلاقتها بالأنواع الفنية الأخرى.[4]
تنتمي فلسفة الموسيقا إلى علم الجمال (الأستطيقا)، وتدرس الأسئلة الأساسية عن طبيعة الموسيقا وقيمتها وتجربتنا معها، وتؤدي الموسيقا دورًا مهمًا في حياة كثير من الناس لا تقل أهمية عن المسائل الميتافيزيقية والإبستمولوجية، وتعدُّ الموسيقا بالمقارنة مع الرسم والأدب أكثر إثارة للتساؤلات الفلسفية؛ إذ إنها شغلتهم في التفكير عن سبب تأثيرها في النفس وعن ماهية عملها،[3] وعدة أسئلة مهمة أخرى منها: هل تعبِّر الأصوات الموسيقية عن أية معنى؟ أم أن الموسيقا مجرد تنظيم للأصوات لإحداث تأثيرات حسية تحقق الاستمتاع برنين هذه الأصوات التي تجذب الآذان؟ وإذا كانت الأصوات الموسيقية تحمل معنى؛ فما هي طبيعة هذا المعنى؟ ومن ثمَّ ما هي الوسائل الموسيقية التي تتيح للموسيقا إحداث تأثيراتها أو توصيل معانيها؟
ومن الجوانب التي ركَّز الفلاسفة عليها هي الموسيقا الخالصة/ المحضة؛ التي لا تدّعي التعبير عن عاطفة أو عقيدة أو تقليد للطبيعة أي لا تريد إلا أن تكون موسيقا فحسب،[4] ويعود هذا لثلاثة أسباب:
· تستطيع الموسيقا الخالصة أحيانًا أن تقدّم أكثر المشكلات الفلسفية صعوبةً.
· يكون الحل أسهل -في جميع المشكلات عمومًا- عندما تكون تفرّعات المشكلة أقل، وهذا ينطبق أيضًا على الموسيقا؛ إذ إن تحليلها ومعالجتها في حالتها الخالصة النقية أكثر وضوحًا ويسرًا مما لو رافقتها كلمات شعرية مقفاة مثلًا.
· إنَّ فهم الموسيقا المحضة يؤدي دورًا مهمًا في فهم الموسيقا (غير المحضة).
وهناك العديد من الخلافات حول طبيعة القيمة الجمالية والفنية، وهناك بعض النقاط الرئيسة فيما يتعلق بالقيمة الفنية؛ مثل أن معظم الفلاسفة يأخذون قيمة الأعمال الفنية كقيمة جوهرية لهم وهذا ما يوضح أن قيمة العمل الفني تُقاس عبر التجربة التي يوفرها هذا العمل ومدى عمقها وإثارتها للمشاعر والأسئلة،[3] وتعدُّ الموسيقا أكثر الفنون استقلالًا، فهي تتميز عن سائر الفنون بأنها لا تصوّر أو تقلّد شيئًا، وأنَّ الانفعال الذي تثيره هو انفعال فريد لا يمكن التعبير عنه بوسيلة فنية أخرى، وتبرز سمتان للموسيقا وحدها هما: العمومية والذاتية، وتعني العمومية أن الموسيقا تصوّر دائمًا أحاسيسًا وانفعالاتٍ عامة؛ فهي لا تستطيع أن تقدّم وصفًا مباشرًا لأي موضوع، أمّا الذاتية فإنّها ترجع إلى الارتباط الوثيق بين الموسيقا والزمان؛ إذ إنَّ فنون النحت والتصوير هي فنون مكانية، والموسيقا فن زماني لأن أداءها يكون عن طريق التعاقب الزماني، وقد ربط الفلاسفة بين الزمان والذاتية؛ فالإحساسات التي تُصاغ في قالب مكاني (كالمرئيات والمحسوسات) هي إحساسات موضوعية ندركها مباشرة بوصفها خارجة عنا، أما الإحساسات التي تُصاغ في قالب زماني (كالمسموعات) فهي بطبيعتها ذاتية أي تعتمد على الذات التي تتلقاها وتنفعل معها؛ وبذلك تبعث شعورًا أنّها صادرة عن أعماقنا، فتكون الموسيقا ألصق الفنون بالذات الإنسانية، ولكن هذه الخصائص مرتبطة بوسائل خلق الموسيقا، لا بالقوة الدافعة وراء هذا الخلق والأهداف والمعاني التي يريد الفنان التعبير عنها، وإننا لن نتمكّن من فهم موسيقا أي عصر من العصور دون الربط بينها وبين ظروف المجتمع التي أُنتجت فيه.[4]
المصادر:
1- هنا
2- هنا
3- أبو نصر محمد الفارابي، كتاب الموسيقى الكبير، تحقيق وشرح غطاس عبد الملك خشبة، مراجعة وتصدير محمود أحمد الحفني، دار الكاتب العربي للنشر، القاهرة.
4- آيات ريان، فلسفة الموسيقى وعلاقتها بالفنون الجميلة، تقديم صلاح قنصوة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ط1، 2010. ص١٧ ص١٥٧ ص١٥٨ ص١٦٥
5- إميل سيوران، اعترافات ولعنات، ترجمة آدم فتحي، منشورات الجمل، بيروت، 2018. صـ 42