كتاب > الكتب الأدبية والفكرية
مراجعة كتاب "حيونة الإنسان": العزاء للأنسنة
يخوض الكتاب في أعماق النفس البشرية بحيادية واتزان تامَّيْن، دون الانحياز نحو مفهومات فكرية مُعينة أو أحكام مُسبقة، ويشكو لنا الكاتب هذا العالم الذي يدعونا دائمًا إلى التحول إلى حيوانات متوحشة لا تدرك مفهوم الإنسانية ولا تَستحق التَرفّع إلى مرتبة الإنسان، وعلى وجه الخصوص؛ بأنه طالما عاد هذا العالم بنا إلى قانون الغاب "وأسوأ من ذلك".
يشير الكاتب بإسلوب المٌفكر والأديب إلى أن كلّ إنسان يملك وحشًا وجلادًا نائمَيْن في أعماقه؛ مُنتظرَيْن أن يوقظهما أحد ليُجرمان بحق نفسه وحق الآخرين وحق المجتمع، ولكن مع ذلك؛ كثيرًا ما حاول الكاتب في كتب سابقة له -مثل كتابه (دفاعًا عن الجنون)- أن يصل إلى مفهوم الإنسان النقيّ المُستَحِق مرتبةَ الإنسانية، وحاول الراحل "ممدوح عدوان" دائماً وضع رابطٍ بين ذلك الإنسان والفَنّ والأدب والموسيقا على نحوٍ مُتقن، وحسب رأيه بهذا الموضوع؛ فإن الفنان هو شخص يسعى دائمًا للوصول إلى مرتبة الإنسان بشكل أو بآخر.
يبدأ الكتاب بوتيرة من المعلومات والحماس والاكتشاف والخوض في النفس البشرية عن طريق التطرّق إلى قضية التعذيب في السجون ودراسة تكوين الجلاد والمُعذّب والضحية، ومن أبلغ الرسائل التي كُتبت بأدب السجون عن التعذيب الحاصل في المُعتقلات للاعتراف بالجرائم؛ كانت رسالة "ماير خولد" إلى "مولوتوف" قبل إعدامه، ويقول بها:
" وجدت نفسي منفصمًا إلى شخصين؛ الشخص الأول يحاول أن يعثر على أثر الجرائم التي يُتّهم بها فلا يجد، والشخص الثاني يَخترع الجرائم حين يعجز الشخص الأول عن اختراعها، وفي هذا المجال كان ضابط التحقيق يُقدم لي عونًا لا يُقدر بثمن حيثُ ذهبنا أنا وهو نَخترع معًا في عمل ثنائي ناجح لتمثيل الجريمة، وهكذا حين كانت مُخيلتي تَعجز عن اختراع الجرائم، كان المحققون يهرعون لنجدتي!"
وينتقل إلى ورطة الإنسان الأعزل وتقبله بأن يكون جلادًا متوحشًا لمجرد أن يُخلي المسؤولية عن نفسه، أو كما يطلق على نفسه " أنا عبد المأمور"، ويذكر أمثلة لدراسة ذلك عن مجازر تاريخية مثل مجزرة "صبرا وشاتيلا" في لبنان لتكون نقطة الارتكاز في هذا المنحى من الكتاب؛ فيطرح دراسة عن النفس الوحشية التي تمتَّع بها أولئك الذين فعلوا المجزرة، ويُشير إلى الجلاد الأكبر "اسرائيل هُنا " الذي لم تلطخ يده بالدماء بل كل ما فعله هو استغلال الحقد الإنسانيّ والحقد الطائفي بين أفراد المجتمع لإطلاقه نحو افتعال المجزرة؛ هذا القسم من الكتاب هو تحضير لما يتلوه، وهو الجزء الإجرامي الأكثر غرابة في تاريخ البشرية "التعقيم أو ما يسمى تحسين النسل أو الحد من الانفجار السكاني عن طريق الإخصاء" ويطرح لنا مجموعة أمثلة عن السويد والولايات المتحدة في السنوات السابقة؛ هذا القسم بالتحديد يوضّح لنا كم أن كلمة إنسانية هي كلمة مطاطة ومشوشة دون تعريف ثابت يُستند عليه؛ فالفعل الإنساني ذو حد بعيد وحد قصير، والحكم بينهما هو الحكم الشيطاني، حتى إنّنا قد نُراهن، في لحظة تأمُّلية، بأن ذلك الشيطان يملك من الإجرام ما يكفي لاغتصاب الأطفال من أجل الإنتاج السينمائي أو أن يعقِّم النساء والرجال والأطفال غير الطبيعيين!
لكن هل يعقل أن مفهوم الإنسان هو مفهوم أدبي فحسب، ولا يصح في الواقع أمام الحداثة والتطور كما حدث مع المحور الغربي الذي يمثل الليبرالية والعلمانية وحقوق الإنسان اليوم؟
قدّ يكون الفاصل هنا يستند أولًا على رؤية القارئ للواقع الفوضوي وصراعه مع المثالية، ويستند ثانيًا على تقديم "عدوان" رؤيته في هذه النقطة.
نَخرج من هذه الأفكار الشيطانية ليطرح علينا الكاتب سؤالًا مهمًّا؛ هل نحن جلّادون؟!
نعم؛ يعيش الجلاد في داخلنا وجيناتنا وأفكارنا الباطنية واكتشافه يكون بالتدقيق على تفاصيل من حياتنا قد نظن أنها اعتيادية أو ننظر إليها من زاوية أنها أمر وسلوك طبيعيان جدًّا، ولكن عندما خاض "ممدوح عدوان" بهذا السؤال رفض التأقلم مع أيّة صورة نمطية في حياتنا، بل استخرج منهم الجلاد المُختبئ في النفس البشرية، وأوضح كيفية استخراجه عن طريق الأفلام السينمائية أو الدراما أو القَهر الحكومي أو السلطة الدينية والسياسية أو التشريع الاجتماعي.
ويعكس لنا صورة عن دور الأدب في كشف تلك الحقيقة عن طريق مقتبس من كتاب "التعذيب عبر العصور" يقول فيه:
"أن الشعبية التي يتمتع بها أيّ كتاب أو أيّ نوع من الفَن تعكس ذوق المجتمع الذي يروج به، ومن هنا نستطيع أن نفهم سبب شيوع موجة الكتابات والأفلام العنيفة" ثم يقول: "إن الذين لا يستطيعون لسبب أو لآخر أن يخلقوا الجحيم الذي يتوقون إليه؛ يشبعون رغباتهم في العالم الخيالي للكتب وأفلام السينما والتلفزيون "
رُبما الفكرة مبالغ بها بعض الشيء برأي البعض، ولكنها تُشير إلى انعكاس رغبة الشعوب في الفن والكتابة، وهنا نقصد رغبة الشعوب التي يسكن بداخلها الجلاد والرُّعب والخوف والسادية للآخر، وهذا جزء من الدلائل التي يستخدمها الكاتب في سؤاله "هل نحن جلادون!؟"
ومن الفقرات المثيرة في الكتاب هي "صناعة الوحش .. صناعة الإنسان" إذ يعكس الكاتب هنا المعايير؛ يدافع عن الحيوان والوحش أمام الإنسان، بل يعدُّ الوحشية والحيونة سلوكًا إنسانيًّا، والوحوش بمرتبة أخلاقية أعلى من الإنسان، ويحاول جاهدًا في هذا القسم إثبات الفكرة عن طريق الدلائل والبحوث التاريخية التي تدل على حيونة الإنسان وإعطاء شهادة البراءة للحيوان والوحش.
ويُكمل بنا الطريق إلى فقرة "ولادة الوحش"؛ يُسقط دور النصوص الدينية والأيديولوجيات الفكرية المتطرفة والمنطلق القومي العنصري ودور السلطة والديكتاتور في ولادة الوحش بين الضحية والجلاد، والخلاصة هُنا أنه لتُسيطر على شعب ما، يجب أن تقسمه إلى قسمين؛ الأول منهم الجلادون وهم الحاشية لك، والثاني هم الضحايا والمقهورون وهم المُقدسون والخائفون عليك .. وهذا حرفيًّا ما يحدث بكل حكم سَلطوي وديكتاتوري في كل حقبة زمنية.
ويعود إلينا الكاتب من جديد مستيعنًا بالنص الديني الإسلامي والنص القرآني للتعبير عن فكرته فيما يتعلق بقضية "القامع والمقموع"؛ فيبرز لنا مجموعة من النصوص التي تفرض على المرأة العبودية والقهر أمام الرجل برخصة دينية، وتفرض على الطفل العبودية والقهر أمام الأب برخصة اجتماعية مع شهادات من الدين وتفرض على المجتمع والشعب العبودية والقمع برخصة دينية أو قومية أو عشائرية تاريخية أو حتى قمعية على نحوٍ وقح وصريح، ويجب الإيضاح هُنا أن الكاتب لم يتبنَّ شرح النص الديني بهذا الشكل أو يدلّ على أن هذا التفسير هو جوهر وحقيقة النص، بل استند إلى شرح وتفسير الخطاب الديني السائد في المجتمع، ومع ذلك قد يكون هذا الجزء من الكتاب هو الأكثر جرأة وتوجيهًا إلى المسلَّمات في المجتمع العربي.
ولم يترك عدوان الضحية باسمها الحرفي "إنها ضحية ومظلومة"، بل أشار إلى مسؤوليتها في فقرة "مسؤولية الضحايا"، وهذا ليُشير إلى أن المجتمع ضحية نفسه وسبب عبوديته وسبب صنع المزيد من الجلادين حتى لو كان هو الضحية في هذه الحلقة، وهنا يستعين ببعض القصص لـ "يوسف أدريس" لتوضيح فكرته، وقد ونجح بذلك جدًّا بأسلوب يظهر به قوة الحجة والإقناع.
بعد الخوض في تلك التفاصيل كلّها؛ يُظهر لنا الكاتب القسم الأكثر أهمية، وهو "السلبطة" أو ما نسميه البلطجية، ويتسرب من ذلك ليصف لنا التنمر؛ هذه الظاهرة الاجتماعية التي تُغطي جميع علاقتنا في المجتمع بكل المستويات، ويصف الكاتب شخصية المتنمر على أنها تمتلك ١٤ صفة ثابتة؛ يصفهم بدقة مع ذكر أمثلة لكل صفة، وهذا القسم الأكبر من الكتاب.
يختم لنا الكاتب ما قدمه في الفقرات الأولى بقسم "أصل العنف"، ويبدأ ببداية لافتة جدًّا من كتاب أصل العنف والدولة لـ "مارسيل غوشيه" و"بيار كلاستر" الذي ترجمه "علي حرب" ويقول:
التغيرات الحضارية مرت بأربع مراحل:
أولًا: البدائية " الالتقاط والصيد والحركة ".
ثانيًا: التقليدية " الاستقرار" ؛ الزراعة وظهور الطبقات.
ثالثًا: الحديثة؛ العلم والصناعة والمواصلات / البيروقراطية الحكومية.
رابعًا: ما بعد الحداثة ؛ وهي مرحلة مشوشة تمامًا وفوضوية، وعلى ما يبدو أن الإنسان يعود في هذه المرحلة إلى المرحلة البدائية -وذلك بعودة شريعة الغاب-، وإلى المجتمعات وظهور العصابات والميليشيات في الليل في شوارع المدن.
وما تبقى من الكتاب يُسقط به "ممدوح عدوان" المفهومات السابقة على المُجتمعات تحت اسم "الحاشية، الدولة القمعية، الديكتاتور، الطاغية" ويشرح أدق التفاصيل في السياسة القمعية للشعوب والتحكم بها.
معلومات الكتاب:
اسم الكتاب: حيونة الإنسان.
الكاتب: ممدوح عدوان.
نُشر عن طريق: دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع.
عدد الصفحات: 284 صفحة.