التعليم واللغات > اللغويات
هل يؤثر عدد المتحدثين بلغةٍ ما في سهولة قواعدها وبساطتها؟
لِمَ تملك بعض اللغات قواعد أبسط من اللغات الأخرى؟ لاحظ باحثون من هولندا والمملكة المتحدة بأن حجم المجتمع يؤثر في تعقيد اللغة التي تتطور فيه، فعندما لعبت مجموعات صغيرة وكبيرة من المشاركين لعبةً اسمها "لعبة التواصل" مستخدمين فقط كلمات من اختراعهم لا معنى لها كانت اللغة التي اخترعتها المجموعات الأكبر أكثر انتظامًا وتناسقًا من لغات المجموعات الأصغر، الأمر الذي يُظهر أن حجم المجتمع مهم في تشكيل القواعد.
لماذا تختلف اللغات عن بعضها بعضًا اختلافًا كبيرًا؟ لاحظ العلماء –بعد مقارنة أكثر من ألفي لغة- بأن اللغات التي تملك متحدثين أكثر هي عادةً أبسط من اللغات التي تملك متحدثين أقل؛ فعلى سبيل المثال أكثر الأسماء الإنكليزية يمكن أن تُجْمَع بإضافة s إليها، في حين أن قواعد الجمع شاذة في اللغة الألمانية، ولذلك يظن اللغويون أن اللغات تتكيف لتناسب بِنى اجتماعية مختلفة، وتقول المشرفة والمؤلفة (ليمور رافيف) Limor Raviv من معهد (ماكس بلانك) المتخصص في اللغويات النفسية: "لكننا حقًّا لا نعرف فيما إذا كان حجم المجتمع هو الفارق من حيث الاختلاف في التعقيد"، فربما يكون سبب امتلاك اللغات الأكبر قواعد أبسط هو كونها تغطي مساحة جغرافية أكبر وكون المتحدثين بعيدين عن بعضهم بعضًا، أو لأن المجتمعات الأكبر لديها تواصل أكثر مع الغرباء. انطلقت (رافيف)، جنبًا إلى جنب مع زملائها (أنتيه ماير) Antje Meyer من معهد (ماكس بلانك) ومن جامعة (رادباود) Radboud University و(شيري ليف-أري) Shiri Lev-Ari من كلية (رويال هولواي) - جامعة لندن Royal Holloway University of London، لاختبار ما إذا كان حجم المجتمع يؤدي وحده دورًا في تشكيل القواعد.
‘wowo-ik’ و‘wowo-ii’
استخدم اللغويون النفسيون لعبةَ تواصل لاختبار دور حجم المجموعة في التجربة، وفي هذه اللعبة يجب على المشاركين التواصل دون استخدام أية لغة يعرفونها، الأمر الذي يقودهم إلى إنشاء لغةٍ جديدة، وكان هدف اللعبة هو التواصل بنجاح بخصوص مشاهد غريبة مختلفة مستخدمين فقط كلماتٍ مُخترَعة لا معنى لها؛ يرى المتحدث واحدًا من أربعة أشكال يتحرك في اتجاهٍ ما على شاشة ويكتب كلمات لا معنى لها لوصف المشهد (الشكل واتجاهه)، ثم يخمن المستمع أي مشهد كان المتحدث يشير إليه عن طريق اختيار واحدٍ من ثمانية مشاهد تظهر على شاشته الخاصة، ويحصل المشاركون على النقاط عن كل تفاعل صحيح (تخمين صحيح)، ويُجمَع المشاركون مع شخصٍ مختلف من مجموعتهم عند كل جولة ويتبادلون الأدوار في إنتاج الكلمات وتخمينها.
كان المشاركون في بداية اللعبة يخمنون المعاني عشوائيًّا ويؤلفون أسماءً جديدة، وعلى مدار عدة ساعات بدأ المشاركون بتركيب كلمات أو أجزاء كلمات على نحوٍ متناسق منشئين بذلك لغةً مصغرة؛ فمثلًا في إحدى المجموعات تعني كلمة wowo-Ik شكلًا محددًا يتجه نحو الأعلى واليمين، في حين عنت كلمة wowo-ii أن الشكل نفسه يتجه نحو الأعلى مباشرةً، وباستخدام مثل هذا النظام المنتظم أصبح من السهل التنبؤ بمعاني تسمياتٍ جديدة؛ إذ عنت mop-ik شكلًا مختلفًا يتجه نحو الأعلى واليمين، ولعب المشاركون إما في مجموعاتٍ صغيرة من أربعة مشاركين وإما في مجموعات كبيرة من ثمانية، وهدف اللعبة هو: هل ستخترع المجموعاتُ الكبيرة لغاتٍ أبسط وأكثر انتظامًا من المجموعات الصغيرة؟
التنوع يخلق البِنية
في نهاية التجربة أنشأت المجموعات الكبيرة بالفعل لغاتٍ بقواعد منظمة ومتناسقة أكثر، وتفسر (رافيف) ذلك قائلة بأن الضغطَ من أجل إنشاء قواعد متناسقة أكبرُ بكثير في المجموعات الأكبر؛ وهذا بسبب وجود مترادفات أكثر للكلمة في المجموعات الأكبر، ويجب على أعضاء المجموعة الأكبر التغلب على هذا التنوع (وجود مرادفات كثيرة لكلمة ما) وتطوير بنية قواعدية متناسقة ومنظمة من أجل فهم بعضهم بعضًا، فكلما زاد التنوع فإنه يدفع الناس لجعل لغاتهم أكثر بساطة.
ووجد الباحثون أيضًا أن حجم المجموعة ساعد على التنبؤ بتشابه تلك المجموعة مع المجموعات الأخرى؛ إذ وصلت جميع المجموعات الكبيرة إلى مستوياتٍ متشابهة من التكوين (القواعدي) والنجاح في التواصل، لكن اختلفت المجموعات الصغيرة كثيرًا عن بعضها بعضًا؛ إذ لم يطوِّر بعضها قواعد متناسقة أبدًا في حين نجحت مجموعاتٌ أخرى كثيرًا في ذلك، وتقول (رافيف) بناءً على ذلك: "ربما يعني هذا في الواقع أن اللغات الأكبر أكثرُ قابلية للتشابه مع بعضها بعضًا من اللغات الأصغر".
وتختتم (رافيف) بالقول: "تُظهر دراستنا أن البيئة الاجتماعية حيث تتطور اللغة -وبصورةٍ محددة عدد الناس في المجتمع- تستطيع التأثير في قواعد اللغات. يمكن أن يفسِّر هذا لماذا تملك بعض اللغات قواعد أكثر تعقيدًا من لغاتٍ أخرى، وتدعم النتائجُ أيضًا الفكرة القائلة بأن التزايد في عدد السكان كان من العوامل الرئيسة في تطوُّر اللغات الطبيعية".
المصدر: