الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة اليونانية
أصل العالم عند اليونانيين، (طاليس؛ الأب الأول للفلسفة كلها)
كانت التغيرات المستمرة للطبيعة لافتة لعقول الفلاسفة الإغريق؛ لذا تساءلوا عن التغيرات المرئية داخل الطبيعة لفهم أحداثها وتفسيرها، محاولين صياغة بعض القوانين الطبيعية المُبرهَنة دون الرجوع إلى الأساطير التي يعرفونها؛ بعيدًا عن جعل الآلهة والقوى الخارقة هي المسؤولةَ عن نموِّ النباتات أو حدوث الكوارث الطبيعية، على الرغم من اعتقادهم بوجود مادة أولية تعود إليها الأشياء الطبيعية جميعها؛ إلا أننا معنيون بطريقة تفكيرهم أكثر من مضمون هذا التفكير؛ فالأسئلة التي طرحوها والأجوبة التي أرادوا الوصول إليها ما زالت تهم الإنسان حتى الوقت الحاضر؛ وبذلك نبدأ معكم سلسلة أصل العالم عن اليونانيين.
تبدأ الفلسفة اليونانية في القرن السادس قبل الميلاد؛ عندما حاول الناس إيجاد جواب علمي عن السؤال: ما هو تفسير العالم؟ ولمَ تحتوي الأساطيرُ والآراء عن نشأة الكون على أي محاولة تفسير طبيعي للأشياء، فهي ذات صلة بمجالات الشعر والدين لا الفلسفة. تنقسم الفلسفة اليونانية بدورها إلى ثلاث فترات سنبدأ بالفترة الأولى مع طاليس ويُطلَق عليها مرحلة الفلاسفة الطبيعيين أو الفترة السابقةُ سقراطَ:
اشتهرَ طاليس بحكمته وبتعاليمه الرياضية والفلكية وفوق كل هذا بكونه مهندسًا بارعًا محنَّكًا، ويُعد طاليس -الذي وُلد تقريباً عام 624 ق.م، وتُوفيَ تقريباً عام 550 ق.م- مؤسسَ أقدمِ مدرسة في التاريخ عُرفت فيما بعد باسم المدرسة الأيونية التي اشتُقَّ اسمُها من أيونيا الواقعة على ساحل آسيا الصغرى؛ ينحدر منها أنكسماندريس وأنكسماس أيضًا؛ وهم مع طاليس الممثلون الرئيسيّون الثلاثة لهذه المدرسة، من الجدير بالذكر أن الفلاسفة الأيونيين أحيانًا يُسمّون أصحابَ النزعة الماديّة الحيّة Hyliocists المُشتقة من الكلمة اليونانية Hule وتعني المادة.
لم يكن هناك كتابة واردة لطاليس ويسود الاعتقاد بأنَّه لم يكتب شيئًا، حاله كحال كثير من الفلاسفة في فترة الفلسفة السابقةِ سقراطَ؛ فلم تصلنا أعمالهم إلّا على شكل شذرات، أو ما وردَ من إشارات عند أفلاطون وأرسطو وأكثرها أهمية ما وُجد في المقالة الأولى من كتاب "الميتافيزيقيا" لأرسطو وهو تاريخ للفلسفة حتى عصره وهو أول محاولة مُسجلة لتأريخ الفلسفة.
ويمكن تلخيص فلسفته بقضيتين اثنتين: أولًا يرى طاليس أنّ أصل الأشياء كلها هو الماء وكل شيء يعود إلى الماء، وثانيًا أنَّ الأرضَ قرص مسطح مستوِ يطفو على الماء؛ وبهذا نجد طاليس يؤكد أنَّ الحقيقة القصوى هي الماء، فهو النوع الأول الواحد للوجود وأنَّ كل شيء آخر في الكون ليس إلا مجرد تغير للماء.
وهنا لابدّ من أن نسأل: لماذا اختار طاليس الماء مبدأ أولًا؟ وبأي عملية يُمكن للماء برأيه أن يتغير للأشياء الأخرى؟ ليأتي أرسطو ويقول إنَّ طاليس على الأرجح استمدَّ رأيه من ملاحظته أن جميع الأشياء تتغذى من الرطوبة وأن الحرارة نفسها تتولد منها، وأنَّ بذور الأشياء ذات طبيعة رطبة والماء مبدأ أول لكل الأشياء الرطبة؛ إلّا أنّ التساؤلات عن رأي طاليس لم تلقَ جوابًا شافيًا بل بقيت مثيرة للشكوك؛ إذن لماذا لُقِّبَ طاليس بـ"أبي الفلسفة"ولِمَاذا علينا القول: إنّ الفلسفة قد بدأت هنا على نحوٍ خاص؟ لتكن الإجابة بأنَّه كان أول من حاول أن يَشرح الكون مُستنِدًا إلى مبادئ طبيعية وعلمية دون اللجوء إلى الأساطير والآلهة المصطبغة بصبغة إنسانية، فقد كان رافضًا هذا التفسير، وطرح المشكلة وحدد اتجاه الفلسفة وطابع كل الفلسفة السابقةِ سقراطَ (الفلسفة طبيعية).
المصدر: ستيس، وولتر. (1984). تاريخ الفلسفة اليونانية. ترجمة: مجاهد، مجاهد عبد المنعم. القاهرة: دار الثقافة للنشر والتوزيع. (د. ط.). من صـ 26 إلى صـ 32