الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة اليونانية
أصل العالم عند اليونانيين، (أنكسمندريس؛ ومادته الهلامية اللامتعيّنة)
كانت التغيرات المستمرة للطبيعة لافتة لعقول الفلاسفة الإغريق؛ لذا تساءلوا عن التغيرات المرئية داخل الطبيعة لفهم أحداثها وتفسيرها، محاولين صياغة بعض القوانين الطبيعية المُبرهنة دون الرجوع إلى الأساطير التي يعرفونها؛ أي بعيدًا عن جعل الآلهة والقوى الخارقة هي المسؤولة عن نمو النباتات أو حدوث الكوارث الطبيعية، على الرغم من اعتقادهم بوجود مادة أولية تعود إليها الأشياء الطبيعية جميعها؛ إلا أننا معنيون بطريقة تفكيرهم أكثر من مضمون هذا التفكير؛ فالأسئلة التي طرحوها والأجوبة التي أرادوا الوصول إليها ما زالت تهم الإنسان حتى الوقت الحاضر؛ وبذلك نقدِّم سلسلة أصل العالم عن اليونانيين.
ضمّت المدرسة الأيونية أقدم فلاسفة اليونان من المفكرين الأصيلين والجريئين جدًّا المنحدرين منها؛ -الذي يُقال إنّه تلميذ لطاليس- الفيلسوف أنكسمندريس، وربما ولد تقريبًا في عام 611 ق.م، وتوفي تقريبًا في عام 547 ق.م.
وعند البحث في مسألة أصل العالم؛ عُرِفَ عن الفلاسفة الأيونيين بأنهم ماديّون فهم أحيانًا يُسمّون بأصحاب النزعة المادية الحية (Hyliocists). فاتفق أنكسمندريس مع أستاذه طاليس أن هناك مبدأ ماديّاً أقصى للأشياء ولبدء العالم لكنه لم يتفق معه بشكل هذا المبدأ، بل رفض أنكسمندريس رؤية طاليس أن الماء هو المادة الأولى في الكون، واعتقد أن هذا المبدأ المادي الذي شكّل الكون غير متعيّن؛ أي إنّه مادّةٌ بلا شكل ولا ملامح.
وكما نعلم أن المادة هي دائمًا ذات ملامح وشكل وصفات معينة، فإما أن تكون حديدًا أو خشبًا أو ماءً أو غيرهم، أما المادة الأولى في رؤية أنكسمندريس لم تتخصص بعد لتصبح أنواعًا مختلفة للمادة أو تنتج عنها مواد أخرى يبدأ منها الكون، ولهذا فإن هذه المادة هلامية بلا صفات، وهي إن كانت غير متعينة من ناحية الكيف فإنها غير محددة من ناحية الكم أيضًا.
وقد اعتقد أنكسمندريس أن هذه المادة (اللامتعيّنة) تمتد إلى ما لانهاية في المكان، ويُبرّر ذلك الرأي بأن لو كان لهذه المادة قدر محدد لاستُنفِدَت منذ فترة طويلة في خلق العوالم وفنائها؛ لأن الرأي الشائع عند أنكسمندريس بأن هذه العوالم المتعددة تتتابع في الزمن وأنه قد وُجِد في البداية عالم وتطوّر وانهار، ثم وُلِد عالم آخر وتطور وانهار وهكذا، وهذه الدورة المنتظمة للعوالم تستمر للأبد.
ومع أن أنكسمندريس غامض وغير واضح بصدد السؤال؛ كيف تشكلت هذه العوالم المتعددة من المادة الهلامية غير المتعينة؟ إذ يفسِّر ذلك بأن هذه المادة اللامتناهية واللامحدودة تنفصل عبر عملية غامضة وتتحوّل إلى الحار والبارد؛ يمثِّل البارد الضباب والرطوبة، وهذه المادة الباردة تصبح في الأرض (مركز الكون في رأي أنكسمندريس) والمادة الحارة تتجمع على شكل محيط ناري حول الأرض، ممّا جعل مياه الأرض تتبخَّر باضطراد بفعل المحيط الحراري؛ مما أنشأ الغلاف الجوي المُحيط بالأرض. ولأن اليونانيّين القدماء كانوا يعدّون البخار والهواء شيئًا واحدًا؛ فقد شكّل أنكسمندريس رؤيته على أن المحيط الناري للأرض تفجّر إلى قشرات هائلة شبيهة بالعجلات ورأى أن ما يُخفي ظهور النار عن أنظارنا بداخل هذه القشرات هو كثافة البخار، لكن توجد ثقوب في المحيط الناري المُغطى بالبخار (الغلاف الجوي) على شكل أنابيب منها تتألق النار وتسبب ظهور الشمس والقمر والنجوم، وكان يظن أنكسمندريس أنَّ الأرض أسطوانية وليست كروية، والبشر يعيشون على قمّة هذه الأسطوانة أو العامود.
المصدر: ستيس، وولتر. (1984). تاريخ الفلسفة اليونانية. ترجمة: مجاهد، مجاهد عبد المنعم. القاهرة: دار الثقافة للنشر والتوزيع. (د. ط.). صـ 29 + من صـ 32 إلى ص34