العمارة والتشييد > التصميم العمراني وتخطيط المدن
(عن العدالة المكانيَّة) مقابلة مع د.إياس شاهين
في العاشر من شهر تموز الماضي، عُقِدَ المؤتمر الدُّولي لإعادة الإعمار، وخلال الـ ١٥ دقيقةً المخصصة له، عرض د. إياس شاهين محاضرته بعنوان: العدالة المكانيَّة (وفق مؤشرات الحاجة والقيمة)، ربط فيها بين العدالة والمكان، وتحدَّث عن معايير العدالة المكانيَّة.
وتضمنت مراجعةً لمشاريع الإسكان الحاليَّة في دمشق ونتائجها الخطيرة على المدينة والمجتمع.
هذا العرض هو نتيجة بحثٍ استغرق أكثر من ثلاثة أشهر من العمل شارك فيه د.إياس شاهين عضو الهيئة التَّدريسيَّة في جامعة دمشق، وم. وسام عسلي باحث وطالب الدُّكتوراه في جامعة كامبريدج/ لندن، ومساعدي الباحثين م. تالة الشامي وم. محمد زنبوعة.
رابط المحاضرة: هنا
المقابلة:
- بدايةً من عنوان المحاضرة والتَّعريف المذكور فيها "العدالة المكانيَّة" هي ما يربط بين العدالة الاجتماعيَّة والمكان؛ إذ يأخذ هذا المفهوم صيغةً اجتماعيَّة وحقوقيَّة.
كيف لنا أن نعرِّف أو نوضح هذا المفهوم أكثر؟
من المهم تسليط الضوء على مفهوم العدالة المكانيَّة وأن يكون واضحًا لغير المتخصص في مجال العمارة، كون هذا المفهوم يهتم بالمجتمع وبالمدينة وسكانها.
نستطيع فهم العدالة المكانيَّة من مجموعة أسئلة من الضروري؛ بل إنَّه من حقنا أن نسألها بوصفنا سكانًا وقاطنين فيها.
لماذا مستوى الخدمات في مكان ما في المدينة يختلف عن مكان آخر؟
لماذا الشوارع والفراغات العامة في هذا المكان أفضل من مكان آخر؟
لماذا توجد حدائق وملاعب للأطفال هنا دونًا عن مناطق أخرى؟
لماذا النقل العام، وغيرها أسئلة كثيرة… لماذا كلّ هذه التباينات؟
لماذا لا توجد عدالة؟!
هذه الأسئلة الكثيرة ومثيلاتها تجعلنا نفكر في العدالة المكانيَّة.
هذه التباينات هي بشكل أو بآخر تصنفنا سكانًا وفق المكان، وتخلق فصلًا اجتماعيًّا أو فوارق اجتماعيَّة؛ تجعلنا نقول إنَّ سكان هذا المكان غير ذلك المكان.
لذلك يكون السؤال باعتبار أنَّ كلّ مكان له إنفاق على خدماته تتناسب وغيره من الأمكنة.
فلماذا هذه التباينات؟
الجواب يتعدد لكثيرٍ من الأسباب؛ ولكن إجمالًا نقول: لا يوجد عدالة مكانيَّة.
- للوصل إلى العدالة المكانيَّة ما الآلية أو القانون الذي يجب اتباعه لتحقيقها؟
للوصول إلى العدالة المكانيَّة يجب تخطي العديد من النقاط، منها أخطاء تتعلق بالممارسات التَّخطيطيَّة التي لا تأخذ بعين الاعتبار قيمة العلاقات الاجتماعيَّة الموجودة في المدينة، وتقوم بفصلها لاعتبارات تنظيميَّة فقط.
وكذلك تتعلق هذه الأخطاء بالأولويات التي تضعها الجهات المسؤولة (مثل المحافظة أو البلديَّة)، والتي تعود لمصالح فرديَّة أو استثماريَّة أو ربحيَّة فقط.
والتي بدورها ينتج عنها تركيز الاهتمام على مناطق تنظيميَّة دونًا عن الأخرى بحجة القيمة والحاجة.
وبشكلٍ كبيرٍ يعود غياب العدالة المكانيَّة لعدم العلم بالشيء، فيكون الأمر متقبلٌ، وكأنَّه أمرٌ منطقي ألّا يكون هناك عدلٌ، فنقول: "شي طبيعي أنو شارع بالمالكي، هو المنطقي يكون أفضل من يلي بالمزة أو صحنايا أو قدسيا!!"
- قبل ظهور مفهوم العدالة المكانيَّة ظهر مفهوم العدالة البيئيَّة، هل هذان المفهومان مرتبطان ببعضهما؟ وكيف؟
سؤالٌ مهمٌ جدًا، عمومًا نشأت فكرة "العدالة البيئيَّة" من أجل إدانة التَّدخل المكاني الذي يعزز من أشكال التَّلوث البيئي، والتَّعدي على الطَّبيعة وبنيتها ومواردها.
العدالة البيئيَّة تقوم على مبدأ يقول: بأنَّ الناس جميعهم لديهم الحق في الحماية من التَّلوث، والعيش في بيئةٍ نظيفةٍ وصحيَّةٍ، والاستمتاع بها.
بالمقابل العدالة المكانيَّة تقوم على مبدأ أنَّ الناس لديهم الحق بالاستفادة العادلة من موارد المدينة، وتوفير توزيعٍ عادل للخدمات في كلّ مكان فيها.
فالتمييز البيئي هو قضيةٌ من القضايا التي تسعى العدالة البيئيَّة إلى معالجتها.
والتمييز الاجتماعي والمكاني من أهم القضايا التي تسعى العدالة البيئيَّة والمكانيَّة لمعالجتها، فكلاهما يسعى إلى عدم هيمنة جماعة وتفوقها لقوتها أو كثرتها على أقليَّة أو فئة مهمشة.
- ذكرت في المؤتمر أنَّ العدالة المكانيَّة تتأثر كثيرًا بآليات اتخاذ القرار، ما دور المعماري والمستخدم في تحقيق العدالة المكانيَّة؟
تؤثر آليات اتخاذ القرار في عدم مراعاتها لخصوصية المكان وحاجات السُّكان على العدالة المكانيَّة، وتسهم في الكشف عن بعض أشكال الظلم أو التمييز؛ ويرجع ذلك بسبب ما شهدته آليات اتخاذ القرار من تحوّلٍ أساسي لما كانت عليه سابقًا وحديثًا، ويظهر ذلك جليًّا في مجال السكن.
قديمًا في السكن الشعبي أو التَّقليدي كانت آلية إنتاج المجتمعات السَّكنيَّة آلية ذاتيّة نسبيًا، فالمستخدم هو من يقوم باختطاط منزله وحارته؛ ولكن بموافقة الحاكم، وهذه آلية لا مركزية بقراراتٍ من الأسفل للأعلى.
وبهذا فإنَّ آلية اتخاذ القرار سابقًا -في دمشق القديمة مثلًا- هي آلية تمكينيَّة، بالمقابل حديثًا أصبحنا نعايش تحولًا في البيئة العمرانيَّة؛ إذ ظهر مفهوم الدولة الحديثة لتكون بمثابة الجهة المنظمة والمسؤولة عن تنفيذ المشاريع، إلى الحد الذي أصبحت الحاجة للسكن أكبر بكثيرٍ من قدرة الدولة؛ مما أدى الى سدِّ النقص بممارسات مختلفةٍ غير منظمةٍ تحكمها الحاجة والربحيَّة؛ مما أدى لنشوء مظاهر اللاعدالة الاجتماعيَّة عند مقارنتنا لكثيرٍ من الأماكن في المدينة من مناطق مخالفات لمناطق سكن أول وسكن ثانٍ، وتعديات على البيئة الطبيعية ومعالم المدينة؛ لتكون نتيجة ذلك كلّه تحول البيئة العمرانيَّة من بيئةٍ منتجةٍ ذاتيًّا من مستخدميها إلى بيئةِ إنتاجٍ خارجي، وكذلك تحول المستخدم من فريق داخلي متمكن إلى متلقٍ، وتحول دور المعماري والمخطط من منسقٍ ومنظمٍ ووسيطٍ لمهندسٍ ومصممٍ فقط بيد الجهات صاحبة السلطة والقرار والقوة.
-انتقالًا إلى موضوع (ماروتا سيتي) ، فإنَّه يُتعَامل مع مشروع (ماروتا سيتي) وكأنَّه سابقة لم تحصل من قبل، بينما في الواقع وعلى موقع يبعد مسافة عن (ماروتا سيتي) على امتداد بساتين الرازي حصل قبل 30 سنةً تقريبًا فعل مشابه، وهو المخطط التَّنظيمي لمنطقة كفرسوسة، هل يوجد فرق بين (ماروتا سيتي) وتنظيم كفرسوسة؟
عند العودة للمخططات التَّنظيميَّة الأولى لدمشق 1938 دانجيه و1968 ايكوشار، فإنَّ منطقة كفرسوسة وخلف الرازي تعدُّ بساتين كما هي حال أرضها وشغل سكانها، من جهةٍ أخرى فإنَّ المدينة دائمًا في اتساع والسكان في ازدياد؛ إلا أنَّ الحل ليس بالضرورة هندسة الأرض والمجتمع لمجرد التَّنظيم.
الحل ليس بهذه البساطة، لأنَّ الأمر يعود لفكرة غياب العدالة المكانيَّة التي دعت السُّكان للهجرة إلى المدينة.
المفارقة في مدينة (ماروتا) عن غيرها من المناطق هو التَّوقيت والأولويَّة، والقيمة والحاجة.
فمن حيث الحاجة والقيمة يُمكن في (ماروتا) حسابها أو تقديرها نسبيًّا، فهي تقع على بعد 3 كم من أقدم عاصمةٍ مأهولةٍ "دمشق القديمة"؛ إذ ستُبنى خلال 5-10 سنوات مدينة جديدة (ماروتا) أكبر منها بـ 1،6.
نسبيًا قيمة الشيء تتعلق بنفعيته والحاجة إليه. وهنا السؤال ما نفعية (ماروتا)؟ وما الحاجة إلى (ماروتا)؟
في اللُّغة يُقصد بقيمة الشيء قدره أو الثمن الذي يُعادل تكلفته، وهنا السؤال في قيمة الإنفاق لـ (ماروتا) مقارنةً بغيرها من النماذج العمرانيَّة السكنيَّة.
أمّا بالنسبة للتَّوقيت -وهنا الأمر الغريب- إذ إنَّه بعد سنين الأزمة والحرب على سورية يجب أن نكون قد تعلمنا شيئًا مما عانته دمشق وسورية عمومًا.
لا يمكن أن نفكر في هذا المكان بهذه الطريقة، فإنَّ تحسين حالة المدينة أفضل من التَّفكير بتحسين حالة مستقبليَّة لا حاجة لنا بها، ولم تكن متأثرة بالحرب أصلًا بشكلٍ كبيرٍ مقارنةً بغيرها من المناطق، وهذه أولوية.
- إذا أردنا أن نتعامل مع منطقة خلف بساتين الرازي في وضعها الراهن؟ ما المقترح الأمثل لهكذا مكان مع الأخذ بعين الاعتبار كيف كانت من قبل، وفيما يخدم تحقيق العدالة المكانيَّة؟
يكفي أن نكون على دراية ووعي بالمدينة ومواردها، وبالمجتمع وحاجاته.
وعلينا أن ندرك مدى خطورة الأمر، فالأمر في (ماروتا) حاليًا مثل كرة من الأخطاء المتراكمة التي تُدفَع رغم إدراكنا لعدم جدواها؛ لمجرد مكاسب محدودة وفرديَّة.
الحل والبديل -ببساطة- أن نتوقف عن ممارسة الخطأ بمتابعة العمل في المشروع وفق وضعه الحالي، فالنماذجُ العالميَّة لممارسات التَّجديد الحضري الخاطئ كثيرةٌ تمتد من أميركا حتى بيروت، منها ما أُوقف ومنها ما يعدُّ نموذجًا لا يجب أن نتمثل به (مثل: سوليدر بيروت ودبي).
ودمشق تتميز بهويةٍ متجذرةٍ تعكس تاريخًا عميقًا وغنيًّا، والحق في تقرير مصير المدينة أمرٌ مجتمعي وتاريخي وثقافي، وليس ربحي وخاص.
لذلك فإنَّ الخطأ في (ماروتا) بالإجمال هو أن نقول عنه وضعٌ راهنٌ علينا تقبله.
- في المحاضرة ذكرت مقارنةً بين ثلاثة نماذج سكنيَّة (ماروتا سيتي، وضاحية الفيحاء، والسكن العشوائي)، ما الرسالة التي تريد أن توصلها من خلال هذه المقارنة؟
سؤالٌ مهمٌ ومتمم لسابقه، الجواب يكون بأن أوضح المفارقة الكبيرة والصَّادمة بين هذه النماذج.
لماذا ندفع لمشروعٍ أصغر برج فيه ارتفاعًا يقابله 5 أبراج في مكانٍ آخر، ويقابله خلية سكنيَّة في مناطق المخالفات؟
كلّ من هذه المشاريع هي نموذجٌ مستقبلي لدمشق، علينا أن ندرك ذلك.
هنا يكمن دور المعماري بأن يبحث عن حقيقة الأمر ويسلط الضوء عليها، وأن يكون وسيطًا بين المشكلة والحل، لا أن يقوم بتصاميم فارهة ويكون جزءًا من الخطأ.
-ختامًا أودُّ أن أتقدم بجزيل الشكر لك د.إياس لإعطاءنا الوقت للاستفسار عن هذا المفهوم، وللإجابة عن أسئلتنا بكل وضوحٍ، شاكرين تعاونك معنا، وأتمنى لمتابعينا قراءة ممتعة.