كتاب > روايات ومقالات
مراجعة رواية (الرغيف): بين تربة القهر وحصاد الثورة
ولد الأديب والروائي اللبناني (توفيق يوسف عواد) في بحرصاف عام ١٩١١م في منطقة (المتن) الجبلية اللبنانية، وله مجموعة واسعة من المؤلفات الروائية والقصصية والشعرية، وصُنِّفت روايته (طواحين بيروت) من اتحاد الكتَّاب العرب واحدةً من أفضل مئة رواية عربية.
ونتناول اليوم إحدى أشهر أعماله، بل وأبرز الأعمال الأدبية اللبنانية ذات البُعد العربي في ذلك العصر؛ إذ صدرت رواية (الرغيف) عام ١٩٣٩ لتكون عملًا روائيًّا رائدًا يتناول الحرب العالمية الأولى في بُعديها اللبناني والعربي.
وقد ربط الأديب (توفيق عواد) بين الأدب والحياة ربطًا مُحكمًا، فيحدثنا قائلًا عن أعماله: "إني لم أكتب هذه القصص وأدفعها إليك عبثًا، بل هي الحياة التي عشتها، وهي قليلة حتى اليوم بعدد سنينها، ولكنها كثرة بالتجارب التي تمرست بها."
ويقسِّم عواد روايته إلى خمسة عناوين تتعاقب بذكاء مزدوجِ المعنى بين الطبيعة والأرض وتتابع مراحل إنتاج القمح -أساس الرغيف- من ناحية، ويربط -من ناحية أخرى- أسماء الفصول بتتابع مراحل العمل السياسي وارتباطه بالوعي الثوري والعمل الميداني، فتسير فصوله بدءًا بالـ(التربة) ثم (البذار) ثم (الغيث) ويتبعه (السنابل) لينتهي في (الحصاد).
ولا تخلو الرواية من الأحداث والوقائع؛ كما في وصفه حادثة الخامس من أيار عام ١٩١٦، فقد عُلِّقت مشانق الشباب الثوار في أراضي لبنان ودمشق، بالإضافة إلى ذكرٍ لأخبار المواجهات والمعارك بين العرب والأتراك التي يُمعن الكاتب في وصف بعضها.
ويستفيض عواد في الوصف، فيجمع بين إحساس الشاعر ومثاليته إلى دقة ملاحظة المؤرِّخ الاجتماعي وعُمْق استنتاجه، فيصف في براعة إنشائية مشاهد الجوع والتشرُّد والثورة على الإقطاع والمعارك وسواها مُعتمدًا على لغة تميل إلى البلاغة الكلاسيكية من حيث حبك الجمل واختيار بعض المفردات شبه المعجمية والاشتقاقات الفريدة.
فيبدأ الكاتب روايته بمدخل إلى ذكرياته، ويعود بنا إلى (عواد) الطفل الذي يقف مذهولًا من صف العساكر الطويل المار أمام منزله، ويصفق مسرورًا بسذاجة طفل لا عهد له بالروزنامة ولا بالحرب، وكأنَّ هذه الرواية هي يقظة هذا الطفل ابن ١٩١٤م وثورته على الحرب والجوع والموت والدماء، وعلى جيوش الأتراك التي صفَّق لها وهو صغير.
وتبدأ أحداث الرواية في قرية (ساقية المسك) بقصة الشاب الشاعر الثائر (سامي) المُختبئ في مغارة بعيدًا عن عيون العسر التركي، وقصة الحب بينه وبين (زينة) التي تعيش مع زوجة أبيها (وردة كسار) التي تمتلك حانة ومقهى اتخذه الكاتب مُلتقى لشخصيات الرواية في غالبها، وم.ُنطلقًا لحبك العلاقات بين الشخصيات المتعددة الموزعة بين الانتماء الوطني المقاوم للاحتلال العثماني والخونة المتعاملين مع المُحتل، علاوةً على الضباط والجنود الأتراك الذين تحاول (وردة) استمالتهم بطرق شتى.
وتسير أحداث الرواية في سياق مأساوي نتابع فيه مصائر الشخصيات في خطوط متوازية في كل فصل من فصولها.
فيُعتقل سامي وينقل إلى سجون عالية، لنعيش معه أجواء مشحونة بالقهر والعذاب، ولا يلبث أن ينتشر بين الناس خبر مقتله مع رئيس الحراس في أثناء محاولتهما الهرب من السجن، لنكتشف فيما بعد أنهما نجحا في الفرار والانضمام إلى صفوف الثوار في الصحراء العربية.
وبالتوازي مع هذه الأحداث تنجح زينة -حبيبة سامي- في قتل الضابط التركي في بيته في أثناء محاولته استمالتها، وتنضم بدورها إلى الثورة بصورة أخرى، وهي الثورة ضد الظلم والاحتكار والإقطاعية مُشكِّلةً ما يُسمى بالعصابة البيضاء.
وعلى إثر قتل الضابط التركي تُعتقل (وردة كسار) وابنها الطفل (طام)، وتذوق من العذاب ما يؤدي بها إلى الجنون، وتجوب الشوارع وراء ابنها بحثًا عن الرغيف وهي ترفع تنورتها وتزغرد كل حين وقد مسَّها الجنون وأصبحت فُرجة للناظرين.
ويبدع (عواد) في وصف شناعة الحرب والمجاعة والتشرد، ويصوِّر لنا كيف يموت الناس في الشارع وهم يبحثون عن الرغيف، وكيف وصل الحال أن يبحث البعض عن الشعير في روث البقر ليقتاتواعليه!
بالإضافة إلى وصف وحال الذل الأسود تحت الحكم العثماني.
ويتابع (عواد) مسير الرواية واصفًا معارك العرب مع الأتراك، ويقول لنا على لسان سامي:
"لكن القضية ليست قصة مسلمين أو غير مسلمين، بل قصة عرب يقاتلون أتراكاً لاسترداد حريتهم، وأتراك يقاتلون عرباً لاستبقاء سلطانهم عليهم، اليوم ولدت القومية العربية الصحيحة. إن أمها هي هذه الثورة التي أمشي فيها أنا المسيحي العربي الى جنبكم أنتم المسلمين العرب، لنحارب عدواً مشتركاً لبلادنا هو التركي سواء اتبع محمداً أو المسيح أو الشيطان. وإن أباها هو ذلك الاستشهاد الذي لقيه شبّان العرب وأبطالهم السابقون"
وهكذا يصل بنا الأديب (عواد) إلى عبارته الذهبية:
"أما نحن في هذا العصر فعيب علينا أن نبني دولتنا الجديدة على أساس الدين".
فيا تُرى كيف ستكون مصائر (سامي) و(زينة) و(طام) وباقي شخصيات الرواية؟ وكيف سيكون الحصاد؟
نتمنى لكم قراءة ممتعة..
معلومات الكتاب:
عواد، توفيق يوسف. الرغيف، لبنان: مكتبة لبنان، 1980، طـ 16. عدد الصفحات: 229.